.. لو انطلقت من مرفأ الطرفاية وسرت جنوبا على شاطئ الأطلسي فإنك ستحاذي صحراءَ مديدةً طولها ثلاثمائة مرحلة، لها شاطئ رملي قاحل ..
ولن يصادفك في الغالب سوى قاعٍ صفصفٍ وجو حار وأفق تعلوه حمرة العواصف الرملية، إلى أن تصل إلى مستوى شمال خط العرض 15 فإنك وبدون مقدمات ستجد نفسك أمام مدينة سينلوي الفرنسية (انْدَرْ)، مدينة سيَّجتها غابات الصواري وزينتها المباني البيضاء ذات الأروقة،
ولا تخلو عيناك من صروح مشيدة خاصة بالإدارة علتْها الفخامة وزانتها الأناقة. وستلاحظ مئات الأخصاص الزنجية وكأنها خلايا نحل تكسرت حولها ألسنة الموج فاستحالت على طول الشاطئ زبدا جفاءً. كما سترى هناك قواربَ بخارية تقطع النهر في كل اتجاه، وقوافلَ جاءت من البدو، وزوارقَ صيد، وأسرابا من طير البَجَع لا تلبث أن تحلق مساءً في سماءٍ لا غيومَ بها، فتعطِي لهذه اللوحة حركية ومعنى خياليا جذابا.
وخارجا عن هذا، ورغم أن مدينة انْدَرْ تبدو ممتدة على الشاطئ الأطلسي فإن محاذاتها لهذا الشاطئ لا تتجاوز الخمسمائة متر، لكنها مع ذلك مبنية في جزيرة من جزر نهر السنغال وعلى بعد خمس مراحل من مصب النهر في البحر. يسمى الحاجز بين انْدَرْ والمحيط “رأس البربرية” (La pointe de Barbarie)، الذي يشكل مرتفعا رمليا يعلو عن مستوى المحيط ولا يتجاوز عرضة مئات الأمتار.
ولو استمر تجوالنا على هذا الشاطئ في عوالي مدينة انْدَرْ فسنرى مصبَّ نهر السنغال في الأطلسي، وهو أحد أطول الأنهار الإفريقية، إذ امتداده يبلغ أربعمائة مرحلة، ويكاد عرض هذا النهر يكون أربعة أضعاف عرض نهر السين بباريس.
في مدخل هذا النهر بالصحراء حاجزٌ رملي يحول دون الملاحة كثيرا، وقد أصبح نقاؤه مضرب الأمثال، وفي هذا المدخل المحاط بنوع من الغموض يعيش وبشكل نادر بعض التجار الأوروبيين، أو عدد قليل من الجنود والموظفين، المرغمين بحكم العمل في سلكهم المكلف بالدفاع على أن يقيموا هنالك سنوات يحسبونها قرونا. ومع هذا فإن هنالك أمورا كبيرة يمكن القيام بها هنا، فهذا الشاطئ القاحل والسهل المتصحر يسمحان لك بدخول قارة لم تكتشف بعد.
الصمغ العربي .. مدينة اندر أكثر المستفيدين منه
من مظاهر تفرد هذه المستعمرة ما فيها من أسواق لبيع الصمغ العربي أو المراسي التجارية التي تشكل عالما مثيرا في حد ذاته: ذلك أن بيظان الضفة اليمنى ينظمون مواسم سنوية لبيع ما يتم جنيه من من الصمغ، وهو مادة يفرزها شجر القتاد. على أن إفراز الصمغ العربي ليس سوى مظهر من مظاهر مرض شجر القتاد، فحصيلة الجني تكون كثيرة كلما كانت السنة أكثر جفافا، وكلما هبت رياح السموم على غابات القتاد، وهذا المناخ في حقيقة الأمر مدعاة لمرض الناس والأشجار.
من الغريب أنه -وحتى يومنا هذا- لا تعتبر تجارة الصمغ العربي تجارة حرة؛ فالتجار الأوروبيون لا يحصلون عليها إلا عن طريق وسطاء وسماسرة زنوجٍ أو خلاسيين أحيانا؛ بحيث يذهب هؤلاء السماسرة والخلاسيين إلى مواسم بيع الصمغ العربي السنوية في مراس ثلاثة معروفة على طول نهر السنغال.
وهذه المواسم أو المراسي الثلاثة هي: مرسى الترارزة المعروف بمرسى الصحراء (يقع مرسى الترارزة “Escale des Trarzas” إلى الشرق من مرسى إدوالحاج “Escale des Darmacours” وتفصل ببينهما قرية دييك “Dieck” الموجودة الآن غرب مدينة روصو: المترجم)، ومرسى إدوالحاج، والثالث مرسى البراكنة بالدويرة (يوجد مرسى البراكنة بالدويرة وإلى الشرق منها يقع مرسى يسمى في الكتابات والخرائط الفرنسية القديمة باسم “Terrier Rouge” أي التربة الحمراء، وهو مرسى على ضفة النهر مشهور ويقع على بعد 50 كلم شرق الدويرة على الضفة اليمنى، وقد ظل تحت إشراف أمراء البراكنة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر: المترجم).
وفي كل سنة وعندما يعلن الوالي الفرنسي بالسنغال افتتاح موسم المراسي تصحو مدينة انْدَرْ من سباتها وتراخيها المعهودين وينشط زنوج وخلاسيو هذه المدينة، فتشد الصواري على السفن، ويحمل الوسطاء معهم قماش “النيلة” (قماش كحلي يستورد من جزر الهند الصينية ومن أهم مراكز صناعته مدينة بونديشيري الهندية: المترجم)، ويتخذ كل وسيط حراسه ثم يذهب إلى موسم بيع الصمغ. في ذلك اليوم الموعود قد يبلغ عدد السفن في المرسى مائتين، وهي سفن من كل نوع فيها الكبيرة وفيها الصغيرة، لكنها على العموم هياكل متقادمة ركبت بطرق غريبة، وهي غير مجهزة، وتحمل على متنها جزءا من ساكنة انْدَرْ.
في هذه المواسم يترك العمال أعمالهم المعهودة ليكونوا حراسا، أما النساء فإنهن يطحن الذرة على ظهر السفن، أما أولئك النسوة اللاتي منعتهن مشاغلهن عن الذهاب وبقين بمدينة انْدَرْ فإنهن يغبطن من استطعن حضور الموسم.
إن سكان انْدَرْ يعتبرون أشهر موسم بيع الصمغ العربي الثلاثة أشهر حرية وحراك وترخيص وكرم: ثلاثة أشهر لا يكون فيها أي التزام تجاه الأسرة، حيث يعيش الرجل وكأنه طفل يمرح ويلعب. وبالنسبة للجميع فهنالك أمل في أن الموسم فرصة للربح الكبير، غير أنه أمل خداع، حيث إن الموسم لا يخلو أحيانا من خسارة، خصوصا عندما يسود التنافس المحموم والمضاربات غير المحسوبة.
وفي الغالب يتحمل السمسار الذي أحضر بضائعه للمرسى لمقايضتها بغيرها هذه الخسائرَ، غير أنها لا تفسد أجواء الموسم المرحة.
توفر هذه المواسم التجارية لوحة من أكثر اللوحات تنوعا، فهي مزيج من البيض والزنوج والخلاسيين، وهناك الفرنسيون والعرب، وهناك الرجال والنساء والأطفال، وهناك خليط من الجمال والخيول والحمير والثيران الناقلة. هناك في هذه المراسي أهل الآفاق حيث يأتيها ساكنة الصحاري من أقصى الشمال بل من المغرب، حتى ليمكننا الجزم أنه لا يوجد سوق بهذا الحجم في إفريقيا كلها.
موريتانيون وغيرهم.. من كل فج عميق
تأتي قبائل الزوايا وآزناگه والترارزة والبراكنة حاملة الصمغ في أوعية من جلود البقر. أما الترارزة والبراكنة الأكثر توغلا نحو الشمال وكذلك جيرانهم من منطقة آدرار وأولاد ادليم فإن هؤلاء يعرضون الخيول والسجاد والإبل والأكسية والأغطية الضافية من الشعَر والتي يشبه قماشها قماشَ البرانس المنسوجة في الجزائر، سوى أن الشعَر الذي يشكل مادة هذه البرانس والأغطية، أشبه بشعَر الماعز منه بشعر الخراف، وذلك بسبب أنها حيوانات تعيش في خط عرض أبعد جنوبا، ولا يخفى أن خراف السنغال ليس لها صوف بل شعر.
أما البلاد المسماة تيرس، والواقعة شمال شرق آدرار، والتي تقطنها قبال إديقب وأولاد بالسباع وأهل الحاج المختار وأهل بارك الله وأهل أشفغ أحمد فتأتي منها إبل الساحل الشهيرة.
وتجد رجالا من قبيلة العروسيين ومرابعهم في الأصل شمال خط العرض 26 وقد جاؤوا معهم ببضائع التل؛ إلا أن ساكنة آدرار وتيرس عموما يذهبون إلى قبائل العروسيين أو إلى وادي نون بحثا عن برانس الصوف، والأغطية السوداء أو البيضاء والحرير والأحذية والجِزَمِ المغربية والخناجر.
أما أولاد تيدرارين القاطنين قبالة جزر الكناري فيصطحبون معهم أكسية الصوف، كما يأتي إلى هذا الموسم أفراد من قبيلة الرگيبات قادمين من وادي نون.
أما تجار تيشيت، وهي مدينة كبيرة وفيها أغنياء وتقع غرب تينبكتو، فيأتون بالذهب الذي استجلبوه من بمبارة سيگو، كما يعرضون التمر والتنورات والدراريع السود المطرزة بالحرير، وقد تم استجلابها من سيگو ومن ولاتة ومن أروان فضلا عن بضائع أقل شأنا كالمسك والعنبر المزيف والدراريع وهي الزي التقليدي لزنوج انْدَرْ التي هي عبارة عن قمصان كبيرة لا أكمام لها تشبه الكندورة المعروفة بالجزائر.
أما تجار تگانت (وهي بلد غني وخصب ويقع على مسافة خمسة أو ستة أيام من بكلْ وحيث تعيش الساكنة حروبا مستمرة)، أي إيدوعيش وكنتة وإدوالحاج فإنهم يصطحبون معهم الصمغ المستجلب من بلاد أولاد امبارك كما يصطحبون معهم الخيول وتنورات بمبارة والتمور.
إن بلاد أولاد امبارك تقطنها قبائل تنواجيو والنوازير وديبسات… إلخ، وتسمى الحوض، وهي أرض منخفضة إلى الجنوب الشرقي من منطقة تگانت الأكثر ارتفاعا منها. ويبدو أن بلاد الحوض هي التي نطلق عليها في خرائطنا وفي كتاباتنا العبارة السخيفة “مملكة ولد أعمر”، فهذه التسمية غير معروفة في هذه البلاد وإنما ألصقناها بها نحن لأن إحدى القبائل التائهة بالحوض كان لها في حدود سنة 1700 شيخ يسمى اعلي ولد أعمر. إن مملكة كارطة البمبارية التي يجاروها شعب الگيفارات البمباري هو الآخر في حرب دائمة مع قبائل الحوض.
وقد نشاهد أحيانا في هذه المراسي رجلا جاء من توات أو آخر من المغرب أو من الطوارق أو البلاد المعروفة بأزواد والواقعة شمال تنبكتو.
يوميات الموسم.. مغانم ومغارم
لتسهيل عملية المقايضة فإن تجار انْدَرْ ووسطاءها التجاريين يقومون بإرساء سفنهم على الضفة ويبنون أخصاصا من التبن والتي سيحرقونها بطلقة نارية إيذانا بانتهاء الموسم، أما البيظان فإنهم يخيمون على مسافة كيلومتر من أخصاص التجار.
تلعب نساء البيظان دورا كبيرا في هذه المواسم، فهن لا يغادرن سطح السفن لا ليلا ولا نهارا طلبا للإكراميات إما باللجاجة أو غيرها من الطرق. ومما يحدث دائما أن فتيات البيظان الجميلات تحصلن وبسلاسة وسرعة على ما يطلبن أكثر من المسنات، وهذا ما يثير حسرة الأخيرات، فعجائز البيظان مثيرات للاشمئزاز فضلا عن أنهن عنيدات.
في السنة الماضية وفي مرسى الدويرة طالبت والدة أمير البراكنة امحمد ولد سيدي، وهي عجوز متقلبة ومتجبرة ومتلفعة بخرق بالية، طالبت بإلحاح أحد التجار الزنوج من انْدَرْ، فما كان منه إلا أن طردها خارج خُصّه دون مراعاة للجناب الأميري.
خرجت العجوز فاطمه عن طورها واشتكت التاجرَ إلى ابنها الأمير حيث كان طرده إياها إهانة لابنها الأمير حسب ما قالت. فأقسم الأمير يمينا لا رجعة فيها أنه سيقتل التاجر فور رؤيته له.
بعد غد كان التجار الانْدَريُّ يتمشى دون انتباه أمام المرسى، فاتخذه الأمير امحمد ولد سيدي هدفا ضاغطا على الزناد. لم تصب الرمية، مع أن البندقية لا عيب فيها، فسدد الأمير ثانية فأخطأ مرة أخرى (وكانت بندقيته من صنع إنجليزي)، ولم ينتبه التجار إلا عند المرة الثالثة حيث أنذره الشهود بأن الأمير يحاول قتله، فوجه وجهه نحو الأمير ليشاهد الخطر المحدق به.
وفي أسرع من البرق جرى التاجر في اتجاه الأمير امحمد ولد سيدي مخرجا خنجره وواضعا إياه على رقبة الأمير قائلا: “أيها البائس، علي أن أقتلك كما يقتل الكلب لكني سأعفو عنك”. وقد ظل الأمير خلال هذه اللحظات العصيبة يستشفع التاجر بالرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) أكثر من عشر مرات. بعد هذه الإذلال أعطى الأمير أوامره لأتباعه بترك المرسى وبإيقاف البيع.
إن البضائع التي يتم عرضها هي: قماش النيلة، والزجاج، والعنبر، والبنادق، ودقيق الرصاص فضلا عن بضائع أخرى زهيدة القيمة. أما البيظان فعدا الصمغ العربي فإنهم يبيعون مقايضة بعض الخيول وأمورا أخرى ذكرناها فوق. إن هذه الشعوب، شأنها في ذلك شأن أجناسها من الناس يتمسكون بتقاليدهم في التجارة وهي تقاليد لا تزول، بحيث لو عرضنا عليهم أنواعا أخرى من البضائع لم يألفوها فإنهم لا يشترونها.
تجارة الحِيَلِ وحيلُ التجارةِ
غير أننا ومنذ سنوات جنينا أرباحا طائلة من بعض نصوص القرآن المطبوعة. وقد تم ذلك بالشكل التالي: إن الرجل المسيحي يعتبر نجسا في نظر هؤلاء البائسين الذين يعتقدون أن القرآن سيتنجس لو لمسناه. ولذلك فإن طلبتهم يأمرونهم أن يحتالوا من أجل أخذ المصاحف منا إما بالخداع أو بالقوة، أو على الأقل شراء ما عندنا من نسخ المصحف.
قبل خمس أو ست سنوات طبع المصحف في فرنسا وظهرت نسخ منه في المراسي التجارية، وحينها كان الورعون المسلمون حريصين على شراء كل تلك النسخ مهما بلغ الثمن. وقد نتج عن هذا الأمر مضاربة ناجحة بالنسبة لتجار انْدَرْ، ولم يضيعوها بكل تأكيد.
بعد ذلك تم استيراد نسخ كثيرة من المصاحف وهو ما هدد مدينة بونديشيري (Pondichéry) بأن توقف صناعة قماش النيلة، في الوقت الذي ستعرف مطبعة فرنسا سوقا مربحة.
ولا يعدو هؤلاء الطلبة أن يجدوا في الإسلام طرقا تأويلية، فهم لن يجدوا باستبدال هذه المصاحف بصمغهم قماشا هم في أمس الحاجة إليه، فمحفوظاتهم الدينية المتميزة لن تجعلهم يفرطون في تلك المنسوجات من “حائك” وسروايل. وعندما لا يقومون بهذه التأويلات فأين هي وظيفتهم المتمثلة في حفظ النصوص الدينية؟
وهكذا فإنه من السهل على أكثر هؤلاء الزوايا معرفة بالنصوص الدينية وإتقانا لها إيجاد تأويلات تقلب المفاهيم رأسا على عقب، فبدل أن يعتمد على الرأي القائل: عليك أن تشتري ما في أيدي الكفار من المصاحف، يصبح الحكم هو: لا تشتر أي مصحف من هؤلاء الكفار، فالأفضل لك من ذلك أن تأكل لحم خنزير!!
خداعٌ وخداعٌ مضاد
هنالك موضوع نقاش لا ينقضي وهو موضوع متعلق بمواسم ومراسي الصمغ العربي وطالما شكل هذا الموضوع إحراجا للحكومة الفرنسية في اندر؛ ألا وهي سوء النية المتبادل والمتعلق بوزن مادة الصمغ ومَعْيَرَتِهَا خلال الموسم. منذ عدة سنوات كان هناك رهان على هذه المساوئ وتم تعيين ضباط صف لوزن الصمغ بوصفهم عيّارين عموميين.
إلا أنه ومما يؤسف له أن هناك رغبة لدى الجميع في النصب والاحتيال، وهو موقف ليس وليد اليوم، دعونا نقرأ ما كتبه الأب لابات (Labat) عن هذه المراسي سنة 1700:
“كان السيد برو (André Brue) قد أخبر أنه غالبا ما تقع اضطرابات معتبرة أثناء موسم بيع الصمغ العربي، لأن البيظان معروف أنهم لصوص كبار يسرقون نهارا الصمغ من القنطار أثناء الوزن وفي الليل يسرقونه من خلال الأخصاص المعدة لتخزينه، وفي المقابل فإن كتاب شركات الأوروبيين وحتى يتفوقون على هؤلاء البيظان في النصب فإنهم يجهدون حراسهم في أن يشقوا الأوعية الجلدية التي يجعل البيظان فيها مادة الصمغ ولا يتركون البيظان يجمعون ما تساقط من الصمغ، ثم إن هؤلاء الكتاب يغالطون البيظان في أثناء الوزن كما يغالطونهم في نوعية البضائع، وهذا ما يجعل هؤلاء البيظان يحملون أحيانا صمغهم إلى آرغين أو إلى مرسى هدي بالجريدة لبيعه للهولنديين، ولهذا السبب كان الجنرال يحرص بنفسه على حضور معايرة الصمغ”.
ويقول التاجر برو كما نقل عنه صديقه لابات إنه أثناء قمع هذه الاضطرابات التي تعرفها المراسي، فإنه قام بتوسعة القنطار بمائتي رطل وذلك بمرسى الترارزة دون أن يتفطن البيظان لذلك.
وبعد ذلك بفترة يقول الأب الطريف جاكوبين: “يتم بيع الصمغ في مرسى التربة الحمراء “Terrier Rouge”. وكذلك في مرسى الترارزة، ونجد أن التاجر برو قد أقام قنطارا ووسعه مضيفا إليه سعة ثلاثة مائة وخمسين رطلا، ومعلوم أنه يسع أصلا لسبعمائة رطل، ولا شك أن هذا التاجر الشاطر سيظل يوسعه حتى يضيف ألف رطل إلى سعته العادية عندما يعود لإفريقيا. وهذا ما يجب أن يكون عليه عمل رجل ذكي وحنون”.
لكنه، ومهما قيل، فإننا نعتبر أكثر وفاء من آبائنا، لأن السلطات اليوم لا تتمالؤ مع ممارسات كهذه لا في السنغال ولا في الجزائر، حيث عرفت فترتنا، فترة فرنسا بالجزائر، ضباطا يعملون في المكاتب العربية وقضاة يفترض فيهم حماية المغلوبين لا نجدهم يحركون ساكنا عندما يتم غبن المواطنين المساكين فيما يتعلق بالكيل والوزن، وفي حالة ما إذا اشترى بعض تجار مدينة بجاية الفرنسيين زيتا من القبائل بوادي الساحل (وادي الصومام) فإنهم يقومون بتدابير تضاعف الكيل بعد أن يتم رفع السعر إلى مستوى باهظ، وهذه أمور استثنائية سببتها منافسة طائشة.
مصير مراسي نهر السنغال
تم في كثير من الإحيان إثارة موضوع إزالة هذه المراسي، فهو أمر مطلوب فعلا مع أنه علينا عدم تجاهل الصعوبات المتعلقة بإلغائها. لقد قال محمد الحبيب، وهو شيخ الترارزة منذ خمس وعشرين سنة كما أنه الرجل القوي الذي وطد حكما مهيبا والذي له سلطة على الضفتين: إنه لن يحدث أي تغيير في قضية المراسي ما دام هو حيا. إنها ليست سوى تصريحات شيخ عربي مغرور بقوته.
إن الحكومة الفرنسية باندر وكذلك التجار الفرنسيين يدفعون تحت طائلة الإكراميات (آمكبل: المترجم) مبالغ طائلة لشيوخ البيظان.
كما يدفعون سعر الصمغ للزوايا وللفصائل الغارمة التي تجنيه من غاباته وتبيعه في المراسي، كما يدفعون مبالغ إضافية لشيوخ العرب حتى يتفضلون بالسماح بعملية البيع، ويمكن أن نقول أيضا إن السماسرة والوسطاء يتقاضون مبالغ كذلك. هذا هو حال بيع الصمغ التي يبدو أن الحكومة في اندر بصدد تغييرها.
إن تجارة الصمغ لا بد من تغيير شروطها بحكم استعمال مادة الدكسرين الصمغية، وبحكم منافسة الصمغ القادم من مصر ومن الجزيرة العربية، والذي أخذ إنتاجه مؤخرا أهمية متعاظمة.
ومن حسن حظنا فإن بعض الأنشطة التجارية بدأت تظهر بقوة في مستعمرتنا في غرب إفريقيا مثل: زراعة الفول السوداني وخصوصا في السنغال وفي السيراليون حيث يملأ حصادها سنويا مئات السفن.
انتهى نص فيدريب
تعليقات على النص:
هذا النص كتبه الإداري والعسكري الفرنسي الشهير الجنرال لويس فيدريب، وهو من أكثر الضباط والإداريين الفرنسيين حضورا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأعمقهم تأثيرا في مستعمرة السنغال الفرنسية وفي العديد من المناطق الموريتانية وخصوصا الترارزة والبراكنة. وفيديرب هو الذي خاض حرب الفرنسيين مع إمارة الترارزة في عهد الأمير محمد الحبيب رحمه الله.
وقد استمرت تلك الحرب أربع سنين؛ بدأت في الأيام الأخيرة من سنة 1854م، وكانت حرب مجابهة وحرب استنزاف معا؛ حيث حرص الطرفان على أن يلحق كل منهما بالآخر ما بوسعه من الضرر وقد أمعن الفرنسيون في استعمال سياسة الأرض المحروقة في أراضي الترارزة.
فأرسل فيديرب سرايا مارست التخريب ضد قبائل الترارزة الكحل على ضفتي نهر السنغال. وقام محمد الحبيب بهجوم على سان لويس (اندر) في 21 أبريل 1855 شارك فيه هو نفسه وكاد يستولي على قلعتها الحصينة.
ولدعم موقفه العسكري، وقام أمير الترارزة محمد الحبيب بمنعه رعاياه من بيع العلك للفرنسيين للضغط عليهم وفي المقابل قام فيديرب بحظر بيع الأقمشة والزرع للترارزة على طول النهر.
وبفرض حصار على المحيط الأطلسي حتى لا يحيي الترارزة مرسى الجريدة أو مرسى هدي (بورتانديك) التجاري وبالتالي يتعاملون مع الإنجليز.
وقد كتب فيدريب عدة نصوص عن بلادنا، فمن ذلك كتابه: مذكرة حول مستعمرة السنغال والمناطق ذات العلاقة بها، وهو مجلد ضخم منشور سنة 1859، وفهي معلومات كثيرة عن بلادنا. وكذلك كتاب الأصغر حجما والذي عنوانه: كلام أزناگه والقبائل السنغالية المنشور سنة 1877، وغير ذلك …
ويعتبر هذا النص أحد أطرف نصوص فيدريب الذي تحدث فيه عن بلادنا وعن جوانب من النشاط التجاري الذي كان ساكنة هذه البلاد تمارسه في القرن التاسع عشر.
وربما يكون فيدريب قد حضر مواسم بيع الصمغ العربي في فترات محددة خصوصا سنة 1852 وسنة 1853، قبل أن يعين واليا عاما على السنغال من طرف الحكومة الفرنسية، وشاهد فيدريب عن قرب ما حصل ويحصل في هذه المواسم، وقد دون ملاحظاته وكتب ما شاهد بعينه وما قيل له وسمعه من التجار والسماسرة، وكان على اطلاع واسع بمجريات هذه المواسم، متى تقام ومن يحضرها، وما ذا يباع فيها، ما ذا على الفرنسيين اتخاذه من احتياطات تجاهها.
لم يخل نص فيديرب هذا من سخرية من الموريتانيين، فوصفهم بأوصاف تعكس إلى حد بعيد نظرة الرجل الأبيض في القرن التاسع عشر للمجتمعات العربية والإفريقية، وهي نظرة استعلاء وازدراء وتبكيت وتنكيت؛ نظرة غذتها الأطروحات الاستشراقية التي تكرس مفهوم المركزية الأوروبية وتفوق الرجل الأبيض، وتدفع نحو العنصرية ورؤية الفضل على الغير، كما تعززها الدوافع الاستعمارية والسباق مع الأمم الأوروبية نحو الاستيلاء على مناطق شاسعة في أفريقيا وبسط نفوذ الامبراطورية الفرنسية عليها.
علاقة الفرنسيين بنهر السنغال علاقة قديمة، ويبدو أن تجارة الصمغ العربي في موريتانيا ارتبطت بهذا النهر ارتباطا وثيقا، وصارت هذه التجارة العنوان الأبرز لنهر السنغال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فقيمة هذا النهر ظلت في هذين القرنين مرتبطة بما يمر عبر مراسيه من عائدات هذه المادة التي ما فتئت تغدي مصانع النسيج ومخابر المنتجات الصيدلانية وغيرها في أوروبا.
ولذلك نجد الفرنسيين يضعون خرائط مقطعية لهذا النهر، ولمختلف المراسي التي توجد عليه، ويبرزون أسماء القبائل والأعراق الموجوة على الضفتين اليمنى الموريتانية واليسرى السنغالية.
ولم تهمل هذه الخرائط ونصوص الرحلات الاستكشافية إعطاء معلومات عن غابات القتاد التي كانت تنتشر إلى الجهة اليمنى من ضفة النهر، أي غابات القتاد الموريتانية. تحدثت الخرائط والنصوص الفرنسية في القرون الماضية عن ثلاث غابات إحداها تحت إشراف إمارة البراكنة وتسمى “الفتاك” بينما تسمى نظيرتها التي تشرف قبيلة إدوالحاج على ريعها بغابة “الأبيار”، وتسمى غابة القتاد التي تحت إشراف إمارة الترارزة بغابة “الساحل”، وهذه تسميات مشهورة في الرحلات والخرائط الفرنسية في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر.
كما تتحدث تلك الخرائط والنصوص عن بحيرة الركيز وتسميها “بحيرة خيار”. وتسمى مرسى إدوالحاج باسم: “مرسى درمانكور” (Escale des Darmacours)، ودرمانكور هو الاسم الذي كان شعب الولوف الإفريقي يطلقه على قبيلة إدوالحاج. ويعرف مرسى إدوالحاج أيضا باسم: “مرسى تكشكمبه”.
وقد ذكر الأديب الفائق مولود ولد اجيه، وهو من الصگيعات من تاشدبيت وقد سكن آخر عمره في الحجاز وكان شاعرا فائقا، “تكشكمبة” في قطعته الشهيرة التي غنى بها المرحوم أحمدو ولد الميداح في “بيگي” وهي قوله:
ألا ليت شعري هل بنو همَّرٍ صَمْبَا ۞ وحيُّهم مجاورون تَكَشْكَمْبَا
وهل بِرُبَا النَّبَّيرَه ظلت إماؤهم ۞ سراعا إلى الصَطَّارَه حاملة تمبا
وهل صَمْبَنِ الفَلاَّنِي ظلوا بجمعهم ۞ على أثر اللَّمْبَايَ يَرْمِسْنَ ما لَمْبَا
هم القوم عمري يوم ظلت نساؤهم ۞ بوادي الغضا يَسْتَنُّ بينهم دَمْـبَا
فلا مت حتى ظِلْتُ بين نسائهم ۞ أطالب لهوا صَمْبَ في رجله صَمْبَا
ولست بزير المحصنات من النسا ۞ ولكنَّ ما في الرُّبِّ تعرفه كمبا
وتكشكمبة: ريعة (زيرة) ويحاذيها من الجنوب سهل ممتد يقع شمال غرب مدينة روصو أزيد من 10 كلومترات، ويمتد جنوبا حتى يلامس النهر..
وسهل تكشكمبة الآن ميدان للرماية مشهور عند أهل روصو، وفي امتداد هذا السهل جنوبا يقع مرسى إدوالحاج المذكور في الخريطة، وكان هذا المرسى في القرن الثامن عشر والتاسع عشر مكانا للتبادل التجاري ويعرف بمرسى إدوالحاج (مرصة إدوالحاج) حيث يباع الصمغ العربي للفرنسيين تحت إشراف شيوخ من قبيلة إدوالحاج.
وبتكشكمبة مدفن شهير.
والنبيرة المذكورة في الأبيات سهل واسع يبدأ من الكيلومتر السابع على طريق روصو نواكشوط وبه الآن مصنع لتقشير الأزر. وتمبَه: بيع اللبن المضير خصوصا ولا يكون إلا مقايضة بالزرع وغيره…
وهو مشهور في المنطقة أنه اختصاص إيفلان.. ويقولون: “تمبة والصلاة ما يخلطو” وهو قريب من قولهم: “أعشگ وأعتگ ما يخلطو”.
والصطارة: الجزء الشمالي من روصو وفي القديم كانت رصو تسمى: “گويربات الصطارة” وتسمى ايضا “گويربات ول اميسَه” إلى أن صار اسمها روصو.
واللمباي: فاعل لمبى وهو شق الأرض لتوضع فيها البذرة … ولا أعرف اصل هذا اللفظ. ووادي الغضا: واد آمور فالغضا شبيه بآمور لذلك عربه الشعراء به.
و”صمبه في رجله صمبه” تفصيح للعبارة “صمبه فاكراع صمبه” وهو تعبير معروف يقال للأمر لا تعرف له نهاية، وكذلك قولهم: “ما في الرب تعرفه كمبة” مثل مشهور عند أهل المنطقة يضرب لمن يعرف سر الشيء وكنهه وهو ينفي ذلك عن نفسه.
وقد ورد في نص فيديرب ذكر أمير البراكنة امحمد بن سيدي ومعلوم أنه تولى الإمارة من سنة 1851 إلى 1858م، وهو امْحمد بن محمد بن سيدي بن امْحمد بن المختار بن آغريشي. وعده ابن حامد الأمير السابع من أهل آغريشي بن سدوم بن السيد بن امحمد بن عبد الله.
وقد عاش فترة في محصر الترارزة في عهد الأمير محمد الحبيب.
ولما تأمر تحالف معه وخاصة في صراع محمد الحبيب ضد الفرنسيين في أواسط خمسينات القرن التاسع عشر. وقد ظل امحمد بن سيدي معارضا لابن عمه امحمد الراجل بن المختار بن سيدي محمد بن المختار بن آغريشي خلال سنوات حكمه الثمانية، ولم يسكن في منطقة البراكنة فتارة في محصر الترارزة وتارة في حلة أهل اسويد أحمد.
وفي أبريل 1847 تزوج ببنت الأمير السابق أحمد بن سيدي اعلي فانضم إليه أنصار أبيها.
وفي سنة 1848 هاجم محصر الأمير امحمد الراجل بمساندة محمد الحبيب أمير الترارزة وفي نفس الوقت كان محمد الراجل يدعم أحمد بن الليگاط أخا محمد الحبيب ومعارضه القوي.
غير أن إبعاد امحمد الراجل وتولي امحمد بن سيدي إمارة البراكنة لم ينتج عنه استتباب الوضع فما إن انتهى امحمد بن سيدي من أمر محمد الراجل حتى تنازع مع ابن عمه سيدي اعلي الثاني بن أحمد الأول وظل نزاعهما مستمرا تسع سنوات إلى أن اصطلحا ثم اغتاله سيدي اعلي سنة 1275هـ = 1858م.
وقد تحالف أثناء هذه الحرب مع أمير الترارزة محمد الحبيب وتحالف سيدي اعلي بن أحمد مع الفرنسيين بالسنغال.
هذه بعض الملاحظات التي أردت منها إثراء هذا النص المفيد وتوضيح بعض إشاراته، ولولا خوف الإطالة لتوسعت في جوانب أخرى من معانيه وملاحظاته.
انتهى
ترجمة وتعليق سيدي أحمد ولد الأمير*
عنوان التقرير: المؤسسات الفرنسية على الساحل الإفريقي. الغابون.