الرئيسية / مراثي الفقيد أحمدسالم بن يحظيه رحم الله / الشيخ الإمام أحمد سالم بن يحظيه الأبهمي في ذمة الله

الشيخ الإمام أحمد سالم بن يحظيه الأبهمي في ذمة الله

نكأ النعي المفاجئ للشيخ أحمد سالم جرحاً لم يندمل سببته وفاة خليلي طيب الذكر إيده، ومازلت تحت تأثير الصدمتين، فليلتمس لي القراء أحسن المخارج إذا لم تستطع الألفاظ أن تعبر عما تكنه الجوانح.
إليهما انم دونما تكلف *** ذكاء إياس وحلم الأحنف
وجود حاتم وكل ما صفه *** حميدة تعلي المقام كاشفه
أعلن في العاصمة نواكشوط فجر الإثنين الموافق 20 ديسمبر 2021 نعي الشيخ الحافظ الفقيه أحمد سالم بن الحافظ العالم يحظيه بن الحافظ العلامة ابَّا بن الحافظ أحمد بن الحافظ محمد بن الحافظ المنفق عبد القادر بن الحافظ الشيخ محنض الهيبه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولد الفقيد سنة 1960م في إنيفرار، في بيت عرف عند بني أعمر إديقب بالمهارة في القرآن والشرف في العشيرة والقبول عند الناس بله الكرم وحلاوة الأخلاق، تلقى أحمد سالم القرآن الكريم ومبادئ العلوم الشرعية على يد والده، وحرصت والدته السيدة حاج الملقبة انَّا بنت اميه على تفرغه للدراسة المحظرية وأطلقت عليه لقب “الوسط” تيمناً بأسماء أربعة علماء وصالحين ينتمون إلى عصر الوسط الشهير كلهم يدعى بأحمد سالم.
ياذا الجلال والإكرام انصر الوسطا *** واخذل بعدلك من عاداهم وسطا
قوم على البذل مجبولون نادبهم *** على المكارم قد أغراهمُ وسطا
بعد وفاة الشيخ يحظيه سنة 1973م، واصل الوسط دراسته في وسطه العلمي فأخذ عمن أدركهم من علماء الحي، وبحلول سنة 1978 عقد الفقيد العزم على القيام برحلة في طلب العلم، فاتجه صوب محظرة الشيخ أحمدُّ بن محمذفال في تنجغماجك ومكث فيها سنتين يدرس مختصر الشيخ أبي المودة، فكان مثالاً للطالب الجاد الذي يعمل بما علم، متمثلاً لما يدرسه، معايشاً للفقه يومياً في طهارته وصلاته وصومه. ثم خاض تجربة ممارسة التجارة في السنغال كما هي عادة من هم في سنه آنذاك، ولكن زهده وعزوفه عن الدنيا منعاه من النجاح في عالم المال والأعمال، ثم اندلعت أحداث 1989 بين موريتانيا وجارتها السنغال، فرجع الفقيد إلى قرية الميسر، حيث تقيم والدته وإخوته مع مريدي الشيخ المربي الشيخ سيد محمد بن محمد بن أحمد التاكنيتي رضي الله عنه.
إن الذي رفع الفقيه الحمدا *** والشيخ سعد أبيه نبراس الهدى
والعالم الشيخ التراد المرتضى *** رفع الوقور الشيخ سيد محمدا
بعد عودة الفقيد من السنغال عُيِّنَ رسمياً مؤذناً لجامع الميسر ونائباً للإمام ومكث خمس عشرة سنة ثاوياً في تلك القرية يعلم أصبيتها القرآن الكريم، فأكمل على يديه زهاء سبعين طفلاً حفظ القرآن الكريم، من بينهم بعض حفدة شيخه وأبناء إخوته، وكان مذهبه في التدريس يقوم على اللطف والرفق والابتعاد عن التعنيف اللفظي والجسدي، ومن تعظيمه للقرآن الكريم اقتناؤه أفرشة خاصة بالمصاحف والألواح، يشرف بنفسه على نظافتها، ويحرص على دراسة الطلاب في الألواح ويمنعهم من القراءة في المصحف لأنه يرى منعه عمَّن لايدرك القربة. ومن شدة ورع الفقيد عدم قبوله لأجرة الطالب الذي لم يلاحظ تحسن مستواه على يديه، بل يعتذر عنها بلباقة ويردها إلى أهله، والورع سيد الأعمال كما يقولون. وقد نجح الفقيد متفوقاً في مسابقة الأيمة التي أشرفت عليها الدولة محتلاً المرتبة الثالثة، فعين رسمياً إمام وخطيب جامع البشرى في توجنين، وظل يصلي بالناس ويدرس القرآن حتى وفاته رحمه الله.
وتعليم طلاب العلوم تراهمُ *** سراعاً إليه من فرادى ومن مثنى
كان الفقيد براً بوالدته، يخدمها بيده وعزف عن الزواج طيلة حياتها لكي لاتزاحم حقوق الغير حقها، فكان يخيط ثوبها ويطبخ طعامها ويتجاذب معها أطراف الحديث، وربما ذكرا الله خاليين ففاضت دموعهما، وقد شهدت له بالبر في حياتها والأبرار في نعيم. والغريب أنه كان أول أبنائها لحوقاً بها رحمة الله عليها، وأطال في أعمار الشيخين الجليلين.
ونحمد مولانا على الخلف الذي *** وجدنا به رأب الثأى فتباشرنا
فلا زال فينا يحمل الكلَّ جاهداً *** كمثل الذي من والديه تعودنا
عرف الفقيد بالاجتهاد في العبادة، فكان يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه، كما كان صواماً ليومي الإثنين والخميس من كل أسبوع ويجتهد في كتمان ذلك حتى عن أقرب الناس إليه، كما كان قلبه معلقاً بالمساجد فإذا حضرت الصلاة وهو بعيد عن المسجد يصفر وجهه ويشعر بضيق وامتعاض شديد، كما عرف بالاجتهاد على الطهارة والمحافظة على صلاة القيام، أما برنامجه اليومي فكان مشحوناً بالطاعات، مخصصا لكل قربة وقتاً، ما بين صلة رحم، وبث علم، ودعاء، وصوم في زمن الحر، وقيام وقت القر، ومساعدة محتاج، إضافة إلى الذكر الدائم والفكر في ملكوت الله، ونفع والمسلمين ونصحهم وعدم الولوغ في أعراضهم والتماس أحسن المخارج لهم.
ومن يحسن الترتيل للذكر فارقا *** قراءة قالون وما جاء عن ورش
كان الفقيد آية في علم الأنساب، فتحسبه دغفلاً عندما يحدثك عن وشائج القربى بين أبناء مهنض أمغر، وخؤولاتهم في القبائل المجاورة لهم جغرافياً، وقد حدثني غير ما مرة عن بعض غرائب الأنساب وأوصاني بالاهتمام بها، كما كان رحمه الله مهتماً بشعر الشيخ المؤرخ المختار بن حامد رحمه الله، وكان يطرب كثيراً لسماعه وربما طلب مني تزويده ببعض نصوصه.
  
كان من عادة الفقيد أن يقوم ليلة الإثنين في زاوية الشيخ سيد محمد بلكصر، فذكر الله كثيراً مع المريدين ليلة الإثنين الماضي وأمهم لصلاة الصبح – وكانت لديهم توصية بتوليه الإمامة متى حضر-، وبعد الإشراق خرج من الزاوية راجعاً إلى أهله فصدمته سيارة كانت تسير بسرعة جنونية، ولاذ صاحبها بالفرار، بينما أسلم الشيخ أحمد سالم بن يحظيه روحه الطاهرة لبارئها، وقد حرص الشيخ المربي محمدفال بن الشيخ سيد محمد على حضور جنازته، وصلت عليه جموع غفيرة من المريدين شهدوا له بالورع والبر والزهد والعبادة والذكر الدائم والمسالمة …. وما مات من أبقى ثناء مخلدا، وقد ووري جثمان الفقيد الشهيد الثرى في مقبرة الميسر قرب ضريح والدته حلت عليهما شآبيب الرحمة والمغفرة.
يارحمة الله أمي قبر سيدنا **** ذي الفضل والعلم والمعروف يحظيه
وباركن في الذي ينميه من عقب *** وباركن في الذي قد كان يحويه
أنتهز هذه السانحة لتقديم تعازي القلبية الصادقة للشيخين الجليلين محمدن وحامد ابني يحظيه بن اباًّ، كما أعزي أسرة الفقيد وأتمنى من الله العلي القدير أن يخلفه في أبنائه وأن يكونوا خير خلف لخير سلف، ولاحول ولاقوة إلإ بالله.

اترك رد