الرئيسية / تأملات / المكان في الموسيقى.. مدخل إلى البنية التصورية

المكان في الموسيقى.. مدخل إلى البنية التصورية

ليس المكان من مفردات الحيرة والجهل التي تعتزلها المعرفة وتخشاها الدراسة ونتركها في رفوف الجهل ، فقد يكون دليلا على الجمال والمتعة و الوجود فقد يدلنا على عوالم كانت مجهولة ولا يحول بيننا وبينها سوى قدم وخطوة..

من خلال هذه الأحرف الحائرة سنقوم بمحاولة غربلة لمجموعة من المفاهيم والقيم الثقافية لبناء فكرة معرفية سليمة، هذه المفاهيم التي نتجاوزها بأمر من سلطة اللغة وبرعاية من المألوف دون أية وقفة أو لفتة عند كنهنا من خلال عملية فحص لدوال الكلمات بعيدا عن مدلولاتها، وقيمتها الاجتماعية الموروثة.

البنية التصورية هي أول صورة احتفظ بها ذهننا عن العالم والأشياء القابلة للتصور وكلما تجلبه اللغة من المعاني ، خلال أول لقاء جمع حسّنا و إدراكنا بالكون بدءا بالأشياء الحسية وحتى أعقد بناء معنوي موجود في محيطنا الثقافي والطبيعي.

وتتضح الصورة أكثر حين نشد على بصر أحدنا ونأخذه في رحلة قصيرة إلى مكان مجهول إلى”سطح المريخ مثلا ” ونزيح الغطاء عن وجهه ونسأله ماذا رأيت ؟ فإن أول ما سيتبادر إلى ذهنه هو أشكال وأحجام وألوان وصور عهدها وألفها وجربها بحسّه في محيطه الجغرافي الأول.

المكان في الموسيقى هي رحلة حسية نجربها كل يوم نحو عوالم من المجهول يقوم خيالنا خلالها بنسج وبناء عوالم كثيفة ودقيقة في التصور حتى تبدو وكأنها ماثلة في عيان وعينا ونشاهدها ونعيشها بكل حضور، ويختلف تصنيفنا لما نشعره من مكان حين نستمع للترانيم الموسيقية التي تتعاقب على ذوقنا، حيث يتلازم في أذهان معظمنا أن كل لون من ألوان الموسيقى يحمل في سماعه عالما متكاملا متلازما معه في الأصل كما توحي القطع الموسيقية بجملة من المعاني الدقيقة كالوحشة والحماسة والحيرة والغرابة والأمن والاطمئنان ووجود الذات والتاريخ الذي لم تحضره والمستقبل الذي تجاوزناه، فيرتبط في الثقافة المحلية أن ذلك اللون من الموسيقى متلازم مع أجواء بدوية لها مناخها المنتقى والخاص،، ولكننا نتجاوز ذلك التلازم الجزئي الذي تفرضه الثقافة المحلية، لنشير إلى أن هذا التلازم يعبّر عن عملية تصورية عكسية يختلط في أذهان العامة من الناس ما توحي به الأنغام الموسيقية من تصورات وما يفترض أن يتلازم معها، فالثانية نتيجة مستوحاة من الأولى، وهذا ما يختزله المكان في الموسيقى ببساطة.

رغم أنه لكل “ظهر” من ظهور الموسيقى عالمه العميق والدفين في حفر الذوق إلاّ أن للأصوات الغريبة على الإنسان والتي تؤدا أنغامها بلغة يجهلها وقعا أدق وأبرز في ذهنه من التي تؤدا بلغة يفهمها ، فحين نستمع مثلا لأنغام تغنى بلغة لا نفقهها كإحدى اللهجات الإفريقية أو الآسيوية فإن ذهننا يقوم برسم خريطة دقيقة لعالم واقعي بأشخاصه وظروفه ويظهر المكان بارزا أكثر من الزمان في تلك اللوحة التصورية التي ينسجها الذهن من خلال وقع تلك الأنغام، ومثالا على ذلك فحين تستمع لغناء ميريام ماكيبا من جنوب افريقيا وهي تغني بلهجتها الأصلية وتقارن ما يصلك منها وما يصلك من غناء عيشة بنت محمد أعل تغني بأبيات من الوافر في “سين”، فإن غناء الأولى يوحي إليك بعالم مجهول تشعر من خلاله بجملة من المعاني الغريبة تطرق ذوقك دون وعي ولا استشارة، وتحس أنك تسافر في الزمن الذي تجلس فيه وأنت تحدث ذاتك بوجود مألوف ومناخ مجهول يظهر فيه المكان كأبرز وحدة من وحدات ذلك العالم الغريب، أما غناء الثانية فتستمع إليه وأنت أسير لغتك الام، وكثقافة محلية تطربك أعلى مراتب الطرب وتوخز ذوقك بشعور طبيعي يتكرر كثيرا في حياتك، ويتصارع النغم واللغة في مساحة ذاتك بكل لياقة وهدوء.

ظهرُ التحرار مثلا يحيل تصورك لأنماط من الزمن عشتها قبل وجودك ولا تتذكر أين ولا كيف عشتها ولا تنسى أنك تشعر بها وفارقتك في حسرة وأنت تشعرها في صمتك ماثلة و تريدها أن تعود إليك من جديد وحتى أنك تبني عالما كامل الأبعاد تلمسه بالحس وتحكي عنه بكل التفاصيل وبلغتك الأم وأنت حظك منه التصوروالشعور وتقارن ذلك العالم وما يحدث فيه من تغيرات مناخية واضطرابات زمانية بواقعك اليوم وما يملأ حسك من الأحداث في عين المكان.

الموسيقى هي دليلنا نحو فهم هذه البنية التصورية التي تأتي معنا يوم نأتي لهذا العالم وهي صفحة بيضاء يرسم فيها الحس بكل جراءة واستبداد عوالم من الطبيعة والأشياء تحتفظ بها الذاكرة وتسخرها لمستويات من الأبعاد العقلية تبدأ من الإنتباه ولا تنتهي عند المعرفة.

ديدي نجيب

تعليق واحد

  1. ذاك مسبول نسبل اطريكن واطريكك

اترك رد