الإدارة مهمة صعبة قلما يجد من القيت مسؤوليتها على عاتقه الوقت الكافي للتحليق مع الشعراء في عوالمهم أو مجالسة الأدباء و كتبهم و من حسن حظنا في هذه البلاد ان من علينا الله بإداريين أدباء. يتقنون إلى جانب عملهم الإداري كل ما له صلة بالأدب سواء كان شعرا أو نثرا فقلما يخلو أي تجمع لهؤلاء الإداريين من إخوانيات شعرية او حوارات فكرية تثري ساحتنا الأدبية وتضفي نوعا من الشاعرية على عالم الإدارة الرتيب.
وفي هذا السياق ننشر لكم اليوم أبياتا جميلة لللإداري الأديب الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف قالها في حق الإداري الأديب السيد الدكتور إزيد بيه ولد محمد محمود كما ننشر أيضا مقالا للدكتور إزيد بيه تحت عنوان “… وفقر في اللغة كذلك!” نقلا عن موقع أقلام حرة تحدث فيه عن العلاقة التي تربطه باللأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف و خصوصا عن كتاب “عيبة الشتيت” الذي جمع فيه الأستاذ مقالات كان ينشرها في عموده الأسبوعي في جدريدة الشعب.
قال محمد فال بن عبد اللطيف:
[| [(يزيد به تزيد به الافاده **** لمن طلب الإفادة والاجادة
وتنتعش الثقافة ما رأته **** ويزهو التاج منها والقلاده
هو الدكتور لكن فيه معنى **** نبيل لا تؤديه الشهادة
قبول في المحافل لا يبارى **** ووزن في السياسة والسيادة
مآثر عن ذويه قد رواها **** مشافهة ويرويها وجادة
)] |]
و إليكم نص المقال :
… وفقر في اللغة كذلك!
لعل من يمن الطالع – عزيزي القارئ – أنك تذكر المقال الذي كتبه المفكر محمد بن المختار الشنقيطي على الشبكة العنكبوتية سنة 2004م تحت عنوان “ثراء في اللغة وفقر في الضمائر”. هذا المقال تذكره لأني أحسبك “مفردا بصيغة الجمع” بتعبير الأديب آدونيس، تذكره لأني كلما لهج لساني بما يذكِّر بالمقال، والحق أن سياقاته تربو على أضلاع الجوهرة، فمرة القرب من السلطان وإكراهات ذلك، وأخرى همُّ الخبز المادي والخبز الرمزي، وثالثة شروط السلامة من الألسنة الحداد… كلما ذكّرت بما يومئ للمقال في أحد النوادي الأدبية، في الندوات، في رواق الجامعة، وحتى في مجالس السمر، فإذا المقال حاضر في أذهان من أحدثهم، بل إن البعض منهم حدثني أنه، من فرط الاهتمام به، سحبه و وثقه.
وقد كرَّس الكاتب المقال لتدخلي “المسموع” في برنامج الجزيرة “الاتجاه المعاكس”. وهذه الحلقة بالذات، وكانت مكرسة لفرسان التغيير وقضايا فرعية أخرى، تأليت ألا أكون طرفا مباشرا فيها، وهو ما دعتني إليه الدولة، حتى لا أقول أغرتني، ممثلة بأعلى هرمها، وبواسطة وزير الاتصال والعلاقات مع البرلمان آنئذ (انظر حلقة ساخنة أعدتها التلفزة الوطنية عن قطع العلاقات مع إسرائيل – يناير 2009م).
وبعد “الحوار” مع الدولة، وأرجو أن تعطى كلمة “حوار” حمولتها التجارية، اقتنعت أنا والطرف الآخر (الدولة) بما كان، بأن يكون التدخل بواسطة الهاتف. وأحمد الله على أن فيصل قاطعني فكانت حصتي من الوقت ضئيلة، حتى لا أقول هزيلة، إذ لو امتد الأمد، لقد خسّ حظي في السلامة من قلم الرجل، ولنال مني نيلا لا قبل لي بالتنبؤ بمضاعفاته… إذ الظاهر أن ريشة الكاتب مثقفة جارحة (من الجوارح) مضاؤها لا مرية فيه… فلقد أحاط إحصاء بعباراتي وقطع بجزالتها، لا للثناء علي ولكن صعودا بي إلى الهاوية، بل وقارن بيني وبين الشاعر المتنبي لا في نفوق بضاعته، لا إلى ذلك جنح ولا إليه قصد في الواقع، وإن كان يؤكد ذلك دون شك، ولكن في نفاقه السياسي للحاكمين أملا في نوالهم… وذهب في ذلك مذهب الأولين، بل ذهب أبعد من ذلك، فخصني – دون المتنبي – بسماجة القصد ودونية المبتغى وخواء الهدف. فآلمني ما كتب ألما مُمِضًّا، رغم أن النصال تكسرت على النصال، قبسا من ومضات … شبيهي المتنبي:
فصرت إذا أصابتني سهام **** تكسرت النصال على النصال
وجرحي ظل نازفا – معنى – حتى كانت المحاضرة التي ألقاها الكاتب في الآونة الأخيرة في فندق “شنقيط بلاس” بدعوة من حزب تواصل. وقد حضرها قادته ومنتسبوه وهامات رفيعة من أهل الثقافة والفكر… وكنت أول المتدخلين، ولا يذهبنَّ بك الظن – عزيزي القارئ – بعيدا. فقد كانت الإثارة هذه المرة لبقة، واعتذر الرجل أجمل اعتذار حتى أوقعني في حرج، والتأم ما “جرح اللسان” وقبلت الاعتذار… ولكن لا أخفي عليك أنه منذ صدور المقال وأنا يخامرني شعور – واهم – يتعمق بمرور الوقت، مثل الأوليغارشيين الذين تبث إذاعاتهم على مسامعهم ما “تتمتع” به شعوبهم من حرية وما “تنعم” به من ديمقراطية، خامرني شعور بالثراء في اللغة، ولم أكنز الثروة، بل لقد تصدقت منها بصدقة تطهرني – في تقديري – وتذهب ما لصق بلغتي من أعلاق ورين وأكدار لصقت بها خلال مواقف ليس هذا محل فذلكتها.
غير أني – عزيزي القارئ – في الأسابيع الماضية “برئت من الشعور الواهم ورجعت لنفسي” وإني أختبر حضور بديهة القارئ ومعرفته بالصيغ الملحونة من أقوال الحسانية المأثورة من أي امتحت صيغة هذه العبارة التي وضعت بين مزدوجتين أخيرا؟
برئت من الوهم، فاهتديت إلى أني لست فقيرا في اللغة فحسب، بل مسكين “سكنت يداه عن التصرف”. ولا بد أني آخذ بالوصفين. كان ذلك حين هممت بكتابة انطباعات عن “كتاب قرأته” فأعياني وجود مصطلح في “العنوان” عنوان الانطباعات التي أكتبها وأحتفظ بها لنفسي، يكون مقدودا على قدّ المعنى الذي أريد، لكن عزائي يكمن في أني لست أول من شط المزار به، فلست أول من أعيته همته، ألم يقل الشيخ سيدي محمد في الربع الأول من القرن الفارط:
إني هممت بأن أقول قصيدة **** بكرا فأعياني وجود المطلع
مع اختلاف واضح في سياق ما أعيى همتينا.
فأما المصطلح الذي أعياني وجوده فيتعلق بتعبير دقيق حد التناهي عن الحاجة إلى الشيء (من بين أشياء أخرى) الذي يتعود عليه كل من أو “ما” يملك جهازا عصبيا، أقول “ما” وفي ذهني درس المدرسة السلوكية و “تجربة بافلوف” التي درسها لنا الأستاذ المغربي بادو في الثانوية الوطنية أواخر السبعينات. ولتقريبه منك فهو “الشوق”، إذا تعلق الأمر بفقدان المحبوب من (أهل، أقرباء، أشياخ، محبوب، وطن…)، فحل التنائي بينك وبينه محل التداني، وهو “القرم” إذا تعلق الأمر باللحم وهو “العيمة” إذا تعلق باللبن أو الحليب، وقد شق الأمر على البيظان “فتكيفوا مع المستجد” – الشاي والتبغ – فعبروا عن الحاجة إليه بـ”آتْرِ”. فكنت أريد مصطلحا يعبر في هذا المنوال عن الحاجة إلى ما تضمنه الكتاب فأعياني.
وأما الكتاب فهو “عيبة الشتيت”. وقد ضمنه مؤلفه عددا من المقالات التي ترد في عموده الأسبوعي “كل ثلاثاء”، ولست أدري لماذا لم يكن “حديث الأربعاء” فهو صنوه وليس أرفع منه أسلوبا في تقديري…
وكنت قد تعودت على قراءة العمود كل ثلاثاء، غير أنه من باب المستحيل توفره كل أسبوع لأسباب عدة أقلها السفر سواء للخارج أو الداخل، وكنت في الحالتين ألجأ لحيلتين فألبس لكل حالة لبوسها، ففي الخارج إذا كان “الانضباط” يلزمني أن أزور السفارة الموريتانية فإني ألزم نفسي البحث عند الملحق الثقافي عن “عدد الثلاثاء” وفي الداخل (زمن التنحية) أذهب إلى “بلاه” كاتب مدير ديوان الوزير الأول وبعد السلام عليه، وحين أهم بالخروج من مكتبه أنقب في “أكمة” أو “أجمة” الجرائد عند يساري ودائما ما أظفر ببغيتي. وأما زمن الترقية فإنها تكون مكومة في المكتب…
ويوم الثلاثاء بالذات، وحين اسمع صليل مفتاح المكتب يديره عبده – شفاه الله – وأنا أعلم أنه يحمل – فيما يحمل – العدد وكأس الشاي الذي أعد بعناية (وذلك بعد التواضع على صيغة تحضيره، إذ لي شأن مع الشاي، وقد سبق أن أومأت لبعض ذلك – انظر القلم – الطبعة العربية). حين أسمع دوران المفتاح يذهب عني بعض ما يصيب من طال عهده بالشاي أو بالعدد، عدد الثلاثاء، وهنا تكمن الحاجة في المصطلح، فلقد حدثني بعض الزوار والسمار أنه كان – عهد الترحال – حين يرى إحدى العلامات الفارقة في تحضير الشاي يتعافي من جل ما يشعر به من آلام في الرأس أو شعور بالدوار قبل أن يحسو الحسوة. كأن يرى “حطبا جزلا ونارا تأججا” أو “خير نار عندها خير موقد” أو يرى “ذنب ثعلب” تخرج أو تنبعث من فوهة “مغراج”، أو يتضوع خليط أريج النعناع بالمفتول الجيد… أما أنا فإني في حيرة من أمري فلست أدري عند سماع صوت المفتاح أيذهب عني (محل المصطلح) جل ما يعتري صاحب الشاي أم صاحب العدد أم هما معا…
ولك أن تعجب – عزيزي القارئ – لم هذا الولع بالعمود؟ وعلام الإطناب فيه؟ فأرد على الفور وأقول : إن صاحبه يجمع فيه، دون تكلف، وفي آن ملأ طالما تاقت نفسي لمؤانسته لطرافته وظرفه وجم فوائده، فهو يجمع ظرف الجاحظ وطرافته وجزالة لغته ورفعة أسلوبه وسلاطة لسانه وخفة ظله إلى جانب سمة العصر الذي نعيش فيه عند طه حسين إلى إمتاع أبي حيان ورجاحة عقل نجيب محفوظ، والماوردي في أحكامه السلطانية مع حضور لرشليو وجان جاك روسو ومونتسكيو، وهم من كبار قادة الرأي والفكر في فرنسا.. ويجمع بين حكمة ابن سينا وابن النفيس وفطنة ابن النينة ولد المقري وأوفى…
ولكني لن أطيل عليك ولن أحمل إليك ما قد تكون أوعى به مني، لكن في سوْق هذه الأسباب مندوحة عن التعجب. فالكتاب عقد فريد ليس هذه المرة لصاحبه الظريف ابن عبد ربه، ولكن لصاحبه الطريف محمد فال بن عبد اللطيف، عقد فريد وبز ثمين انتظمت فيه خرز وأصداف، وجمانات ولآلئ وحبات نفائس لا متجانسات، أثمانها طائلات، غير أن الاختلاف فيها (مواضيعها) يضفي عليها ائتلافا (في قوالبها وطريقة تناولها وجزالة لغتها ورشاقة أسلوبها).
وأما المؤلف فقد عرفته “بالسماع” أول الأمر. وقد صادف ما يكتب في نفسي هوى لما لمست فيه من تشاكل وتقاطع بيني وبينه. فقد كان في بدايات كتاباته معتدا بنفسه وبوسطه وثقافته وجهته، كذلك كنت أنا مع اختلاف بيننا في طريقة التعبير عن ذلك، فهو إن لم تكن مهندزا (وأرجو المعذرة من القارئ، ففي القواميس هكذا، ولكنهم أبدلوا الزاي سينا واحتجوا بعدم تجاور الدال والزاي في العربية)، إن لم تكن مهندزا – وأنا أتوخى كذلك حمولتها المحلية – لن تهتدي إلى نوازعه، إلا إذا كنت بارعا في التخريج (إذ لا بد لمن يريد فهمها أن يكون قادرا على وضع الحاشية والطرة والاحمرار و”الرانفوا”).
أما عبد ربه فلن يكلفك ذلك جهدا. وأنا أحسن بك الظن أنك تصفحت المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون، فلذلك خلفيته عند الكاتب (والعلامة التي لا تخطئ) والتعبير له (رسالة الفيش بين كسكس والعيش).
ثم عرفته عن كثب وحضرت معه “حضورا” مشهودا. أذكر منه مشهدا حدثني غير واحد أنه يورده في سياقات مختلفة، وهو أننا كنا في بوتلميت لحضور ندوة عن الشيخ سيدي وابنه الشيخ سيدي محمد وحفيده الشيخ سيدي بابه، وكنت مسؤولا فيها عن تقديم الدور الاجتماعي للشيخ سيدي بابه، وكان الوقت وقت استراحة وغداء. وانتبذت أنا وهو، والمختار بن محمدا الشاعر المعروف، وأحمد بن عبد القادر الشاعر المعروف كذلك، والأستاذان محمد بن الخباز وأحمد بن محمد المامي، مكانا قصيا، كنا على ما أذكر نتحدث عن أبيات ولد محمدا الظريفة (عن التعيين) فإذا برسول من أحد أبرز قادة الرأي والسياسة يريد حضوري، وهي عادة دأب عليها كل مرة أكون فيها ضمن الحضور، فذهبوا معي جميعهم بناء على طلب مني، وبدأت في تقديمهم من اليمين، فإذا هو على معرفة كافية بهم إلا هو، فقلت له، وهذه قناعتي: هذا من الرواسي الشامخات في البلد، هل تعرف آكراراي، فم أكجوجت… قلب الريشات، إمعانا مني في إظهار شهرة الرجل.
ثم تصاقبنا بعد ذلك في الوزارة الأولى، تصاقب الأقاليم (مدير الوثائق الوطنية، مستشار الوزير الأول).
وقد ذكرت له مرة ما يعتريني حين أفتقد العمود، فقال لي أنوي نشر ما تيسر من الأعمدة في كتاب واحد، وكأنه يقول هذه فرصتك في الاستدراك، ولكن يسلم بن حمدان لم يكتب التقديم، فأومأ إلي أننا من قبيلة واحدة (بطريقته هو) وأراد بذلك استنهاض الهمة لحثه على ذلك، فقفلت راجعا إلى يسلم وتركت مهمتي، وطلبت منه تحرير المقدمة أو التقديم على الأصح، وكان لي ما طلبت. وفي الأسابيع الماضية زارني محمد فال في المكتب “فزارني … والفضل في الحالين له” فأهداني الكتاب وبه تقديم يسلم، وكان في الحقيقة بارعا كعادته وديدنه. والحق أنه جرى لي مع هذا الكتاب ما حدثني به أحد الظرفاء عن نهم مولع باللحم الحنيذ، فكان يدس القطعة في الرمضاء ويذهب عنها بعيدا ويضع القيود على رجليه ليقطع المسافة بخطى وئيدة لعل ذلك يمكن من إنضاج قطعة اللحم… حدث لي هذا مع الكتاب، فقد سافرت به إلى فرنسا، وهي في الواقع عاصمة الأنوار، ولكن أنوارها أصبحت “كاشفة”، وقد أومأ البيضاوي الجكني إلى ذلك في قصيدته المشهورة:
من جاء باريس واستجلى روائعها ولم يغض من الطرفين ويلته
وهذا الطرف الذي غض وقع على خير جليس، ولكن على طريقة النهم المولع باللحم الحنيذ، فكنت أقرأ العنوان وأثني ورقته، وأنصرف لنشاط آخر وأترك المقال بقضه وقضيضه دون قراءة إلى وقت آخر، وهكذا، وحين هممت بكتابة الانطباعات على سجيتها لأحتفظ بها أعياني – كما أشرت إلى ذلك – وجود المصطلح، وحسبي من كل هذا أني أظهرت فقري في اللغة وأبنت حاجتي إلى المصطلح (ففي النفس حاجات وفيك فطانة) فهلا تكرمت، عزيزي القارئ، بإخراج مصطلح يفي بالقصد!
ولا يقعدنّ بك ما يصاحب المصطلحات الوليدة من نفور الأنفس منها أو نبوّها أول وهلة عن القصد، فالمصطلح يولد غريبا. ولكنه يتكيّف، أو نحن نتكيّف معه تماما مثل تكيّفنا مع بعض أولئك الذين تسند لهم حقائب وزارية في الأزمنة الوليدة نأنف منهم أولا ثم ما نلبث أن نألفهم ثانيا… هكذا كان شأننا مع الطائرة والهاتف، مع البرق والسيارة والإذاعة، وهكذا كان ديدننا مع الآخرين… ولك علي أن أبارك زكاة المصطلح، فالأمل فيه أن يكون على قياس القصد لا غنى عنه، إذ هو على شاكلة الترياق والدواء لا بد من تعليق عريض الأمل على كل واحد منهما لإتمام سريان مفعوله، وأنا أقترح مصطلح “الطَّرفْ” أو “الظرفْ” للتعبير عن مشتاق الطرافة والظرافة. هذا مصطلحي، فليريني امرؤ مصطلحه، ومن ثم، أليست اللغة تواضعية في إحدى دلالتيها؟
موقع انيفرار