شرفنى الولي محمذن اليوم بتقديم كلمة الصالون ، وقد كان موضوع الحلقة : نقاش كتاب امروك الحرف تحقيق الدكتور سيد أحمد بن الأمير و هذا نص الكلمة:
السادة الحضور
يتفق معظم الباحثين على أن اتراب البيظان تبدأ من وادى درعة شمالا إلى نهر السنغال جنوبا، ومن وادى النيجر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا ، أي أن فضاء الناطقين بالحسانية يشمل مناطق من عدة دول هي : موريتانيا و المغرب والجزائر ومالى واتشاد.
الحضارة البيظانية إن صحَّ التعبير هي صناعة مركبة ساهمت فيها جميع شرائح المجتمع على مر العصور. يتألف المجتمع الناطق بالحسانية منن جذمين كبيرين (صنهاجة و بعض القبائل ذات الأصول العربية وقبائل المعقل) فشعوب صنهاجة الضاربة في القدم على هذه الأرض هي من جلبت المعلم الأول عبد الله بن ياسين الجزولى (ت 451 هـ) ، وبفضل تدينها الصحراوي الصادق صار لديها تراث فقهي مالكي يعتمد آراء ابن القاسم في الغالب، كما أن سكنها الطويل في الصحراء راكم لديها خبرات هامة في مجال استنباط المياه ، ومعرفة الطرق الصحراوية التى لا يهتدى فيها القطا.
أما المكون الثانى فهو القبائل المعقلية الوافدة إلى الصحراء في إطار هجرات طويلة ومتفاوتة. فقد جلبت معها لسانها الفصيح وفروسيتهاا المتميزة وتراثها الغني بالمعارف و المرويات الشعبية كالسيرة الهلالية وغيرها . وقد انصهر الجذمان في بوتقة واحدة واستفاد كل منهما من تراث الآخر و تأسست هوية ثقافة البيظان في القرنين الثامن والتاسع الهجرين.
اكتملت هوية الثقافة البيظانية نهاية القرن العاشر الهجري وبلغت أوجها في القرنين الثانى عشر والثالث العشر الهجرين، وهي حضارة إسلاميةة عربية صرفة تتناغم مع مثلث الفقيه عبد الواحد بن عاشر المتساوى الأضلاع :
في عقد الأشعرى وفقه مالك *** وفي طريقة الجنيد السالك
أما مصادرها فقد تم استمدادها من العالم الاسلامي عبر رحلات الحج ، حيث تم جلب الكتب من مصر والقيروان والأندلس والجزائر عبر طرق القوافل التى من أشهرها اتوات ، تلمسان، تيمبيكتو ولاتة.، كما اعتمدت محاظرها المناهج الدراسية المعتمدة في المغرب وهو ما ضمن لها ثراء وتنوعا قل نظيرهما في شبه المنطقة.
تتميز الثقافة البيظانية بأنها أدبية لغوية فقهية، تعطى الأولوية لعلوم الآلة وفروع الفقه ،على حساب العلوم التطبيقية كالطب وعلم الهيأة رغمم حضورهما المحدود، و يعود ذلك إلى الطبيعة البدوية لتلك الثقافة وهي مفارقة لأن العلم صنعة حضارية ، وهذا ما أشار إليه الشيخ محمد المامى بقوله (نحن قوم أهل بادية وفترة بين العمالتين الإسماعيلية و البوصيابية ) ، ومن شبه المؤكد أن هذه الثقافة هي الوحيدة التى تم تدارس علومها على متن ظهور العيس.
كما أنه من الملاحظ ميول البيظان وتعلقهم بالحجاز من خلال اعتماد مقرإ الإمام نافع و مذهب الإمام مالك وكلاهما مدني إضافة إلى اتقان علومم السيرة ، و تفضيل الشعر الحجازي على غيره في المناهج التعليمية.
صدر المجتمع البيظاني ثقافته العالمة إلى دول الجوار من خلال دولة المرابطين التى أخرت سقوط الأندلس بأربعة قرون ، كما أن حركة الإمامم ناصر الدين فتحت ما وراء النهر و نشرت الإسلام واللغة العربية في جزء هام من السنغال ومالى ، وصارت مصدر إلهام لحركات دينية مماثلة في فوتا.
سادت اللهجة الحسانية في هذه الربوع منذ القرن الرابع عشر الميلادي، ويرجع ذلك ربما إلى أنها أقرب اللهجات إلى اللغة العربية ، كما أنهاا لغة الخطاب عند أهل الشوكة والمغلوب مولع بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون.
واللهجة الحسانية قريبة من اللهجات الحجازية ويتجلى ذلك مثلا في تسهيل الهمزة و كيفية نطق الضاد، لكن استخدامها في هذا الفضاء الصحراوي، أضاف بين مفرداتها الكثير من الكلمات الصنهاجية واللهجات الأخرى التي كانت حية قبلها، فقد ذكر الحاكم “دبيى” في مقال نشره سنة 1949 أن 21 بالمائة من مفردات المعجم الحساني هي من أصل صنهاجي. كما أن الباحث “لبورن” جمع في كتابه “الجمل” 1000 مفردة حسانية تتعلق بالإبل، وقد لاحظ أن من بينها 270 مفردة من أصل صنهاجي.
والتعبير الحساني غني ومتنوع ويتصف باستعمال وسائل عديدة لإغناء النص مثل الصور البلاغية والتراكيب اللغوية المعبرة عن العواطفف والمشاعر، وفيه أيضا أساليب القسم وأدوات الشرط وصيغ الاستفهام والإشارة والتصغير والتفخيم والتعجب والحث والإغراء والتحذير والدعاء والتفضيل والمقارنة وغيرها.
تتميز الثقافة البيظانية، بقلة الكتابة ووسائلها، بسبب نمط الحياة البدوية المتنقلة ،وهو ما جعل التعابير الشفهية هي وسيلة التواصل الناقلة للتجارب والحافظة للذاكرة الجماعية التي تترسخ وتتجذر من خلال جلسات السمر التي تميز ليل الصحراء.
ولعل ما يفسر ظاهرة الحفظ و الإتقان – التي بهرت المشارقة عندما التقوا بعلمائنا – هو إكراهات الحل والترحال وصعوبة اقتناء و حفظ ونقل الكتبب ، فلذلك ربما فضلوا أن تكون صدورهم أوعية للعلم لسهولة التنقل بها حيث ما يمموا ، ويرى البعض أن اللوح القرآني ساهم في تعزيز ملكة الحفظ عند الأطفال منذ نعومة أظفارهم، لأنه لا تتجدد الكتابة فيه إلا بعد حفظ محتواه عن ظهر قلب ، ويبدو جليا أن الفاتحين البيظان نقلوا تلك المهارات إلى القوميات المجاورة فتراهم يستخدمون نفس الألواح في التعلم.
كان الدرس العلمي يقدم في المحاظر الموريتانية بالحسانية ، وهو ما مكن القاعدة العريضة من المجتمع بأن تتعلم ما علم من الدين ضرورة ،، حتى أن بعض الشيوخ استخدم الأدب الحساني من أجل جمع النظائر و تلخيص بعض الأحكام مثل اطلع الشيخ محمد المامى والأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف في العقيدة و اطلع ول الكتاب و ول هدار في التوجيه و اطلع باب أحمد ول الكصرى في سجود السهو وشريعة الأرض ، وبعض الكفان المتفرقة في علوم القرآن و النحو والفقه ومن ذلك قول العلامة أحمد بن اجمد ناظما صاع النبي صلى الله عليه وسلم
إلصاع ارسول *** اندور اتكول *** قــدر وزول *** جهل وبان
ملئ الحفنات *** المعـــــــتدلات *** أربع مرات *** افكل ازمان
ومن ذلك أيضا أن حيا من الزوايا أشكلت عليهم نازلة صورتها أن ر جلا أرسل بزكاة فطره بعد ان وجبت عليه فتلفت في الطريق فهل تسقط عنه بهذا الإخراج أم يلزمه إخراجها من جديد؟ فلم يجدوا في ما لديهم من الكتب نصا على هذه المسألة وبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم شخص و أنشدهم “كافا” للقاضى أحمد فال بن محمذفال فيه جواب مسألتهم مع العزو، وكان محمد باب بن الندَّ اليدوكى إذ ذاك حاضرا فنظم هذه الواقعة بقوله:
سولن طالب عن فطر*** بعد العزل الهلاك اطر
كمن نحن خلطت لكر *** ل فاحكام الفقه انجول
جان حرطان يشطر *** لأحمد فال بكاف ايكول
مول الفطر كان ارسله*** و اتعيثر بيه مرسول
ما لا زمل لخلاص اله *** و الخرشى هذا مقول
وهذا يعنى أن نظم المسائل الفقهية بالحسانية يعطى الفرصة للجميع بإبداء رأيه فيها ومناقشتها واستيعابها ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه الأنظام التعليمية الحسانية رغم أهميتها لم تطرق إلا أبوابا قليلة من العلوم النقلية.
ورغم قرب اللهجة الحسانية من العربية إلا أنها تميزت عنها بفروق جوهرية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ، تصغير الفعل ف يويكف وو يجير لا توجد في العربية لأن التصغير فيها خاص بالأسماء، والقمر مذكر في العربية وهو مؤنث في الحسانية نقول الكمر.
من ناحية أخرى فإن الأدب الحساني شكل عاملا مشتركا بين الناطقين بالحسانية، فإذا أنشد أحد الأدباء كافا في كلميم ، سيصل بسرعة إلىى إيكيد و أزواد والعكس ، كما أنه شكل خطا متوازيا مع الشعر العربي ، و تعتبر ظاهرة ازريكة نقاط تماس بين الخطين ، ولذلك تذوقت القاعدة الشعبية الأشعار المشوبة بالحسانية ، وكذلك الأشعار التى متح أصحابها من الموروث الشعبي.
يقول الشيخ محمد بن أشفغ عبد الله الأبهمي مادحا شيخه محمد سالم بن ألما
في النحو والفقه شيخى لا نظير له **** وكـــــــــــــل قرن إلى إقرائه قرم
فإن أتت طـــــــرة المختار يقرؤها *** حتى يرى الحاضرون النار تضطرم
وكقول الأستاذ محمد محمود السالم بن شمس الدين في مديحيته الجميلة:
هواك بقلبى عاث ياربة السبط *** فلا قرب لى يلفى بديلا عن الشحط
وإن رمت وصلا فامنحيه مجزأ *** فــــــما ربح التجار إلا من السقط
و رغم أن الشعر الحساني طرق نفس الأغراض التى طرقها الفصيح إلا أننا نجد اختلافات جلية بينهما فمثلا في غرض الغزل لم يشبه شعراء الحسانية النساء بالشمس ولا بالقمر، كما أن نمط الخطاب بينهما مختلف، فحين فضل الشاعر الفصيح في النسيب خطاب رفيقه فقال قفا نبك أو وقوفا بها صحبى ،خاطب الشاعر الحساني ذاته فكلم العكل و الدلال و لخلاك والروح و بين العبارات الأخيرة فروق دقيقة لا يعلمها الكثير من الناس.
ومن الفروق الجوهرية أيضا الأدب الملحمي الحساني اتهيدين الذي تختص به الحسانية وقد حفظ لنا العديد من المعلومات التاريخية حول أيامم العرب ، كما أن الزفانين وضعوا من خلاله المسطرة الأخلاقية للأمراء وأهل الشأن العام.
هذا إضافة إلى أن ذكر الأمكنة في الشعر الحساني أكثر من صنوه الفصيح الشيء الذى يفسر ربما مقولة المفكر عبد الودود ول الشيخ:
Le maure s’ inscrit plus dans l’espace que dans le temps
من أهم السمات والخصائص الأنتربولوجية المميزة لمجتمع البيظان :الراحلة لعبيدية، اللثام الأسود، و سروال لكشاط، و آلة التدخين “الطوب” و المذق ازريك و أزوان، آردين و التيدينيت كما أن الإفصاح في نطق حرف الذال يعتبر صفة كاشفة لهذا المجتمع ….
تشكل الفروق والخصائص التى أشرنا إليها سابقا حقلا حفريا هاما ، لا شك انه سيثير فضول الباحثين الحاضرين فيعطونه حقه في البحث وو التمحيص، و سوف يصلون إلى استنتاجات طيبة ستثرى الساحة الثقافية وتحافظ على مقومات الثقافة البيظانية التى أصبحت مهددة بالإنحسار أمام مد لغات التنكنولوجيا فأنت ترى الصبي اليوم يقول الجملة لا يلقى لها بالا وليست فيها مفردة واحدة من الحسانية .
أيها السادة
موضوع حلقة اليوم من الصالون هو كتاب هام يعتبر أول مؤلف باللهجة الحسانية ، حققه الدكتور سيدأحمد بن الأمير ونشر مؤخرا في ثوبب قشيب تحت عنوان ” أمروك الحرف”
يعتبر الخروج عن النسق العادي أمرا غيرمألوف في ثقافة البيظان و قد أشار الأديب العالم امحمد بن أحمد يورة إلى ذلك في قوله مخاطباا الشاعر لكبيد بن جب “
و لا أنس ملأشياء لا أنس ليلة *** ســــقانا بها لكبـــــيد من شايه صرفا
فتى ماجد حلو الفــــــكاهة سيد *** أديب على الجلاس ما يمرك الحرفا
وإن أنبـــــــتت أقوامه كل كفة *** تراه قـــــــصير الرأس لاينبت الكفا
كما نجد الشاعر الأحول الحسني يقول في شأن التبرك بأسرة أهل صلاحى بن آبنى الشهيرة
لا تنكر الشفا لمــــن يستشفى *** بآل صلاح بدور الكشف
قوم مروك الحرف فيهم ألفى *** و خيرهم أمركهم للحرف
وعنوان الكتاب دال على محتواه فهل أراد المؤلف أن يقول إن الحضارة البيظانية “ماركة عن الحرف” لكونها تعمل على تغيير العقليات من خلال نشر تعاليم الدين الحنيف وبالتالى فهي في نظر الشعوب المفتوحة خارجة عن مألوفها، وتلك عادة قديمة مشتركة بين الأمم الغابرة كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم .
أم أن المؤلف نفسه خرج عن النسق المعهود في التأليف فكتب بلغة مغايرة في مواضيع غير مطروقة.
وتكمن القيمة المضافة لهذا الكتاب في أنه أول مصنف باللهجة الحسانية ، وصف صاحبه بدقة الخيول العتيقة و النباتات و إمارشن.. ثمم ذكرالصفات الكاشفة لمختلف مكونات مجتمع البيظان ، كما أنه ضم مفردات من الحسانية “الزمنية” لم تعد مستعملة في لغة التخاطب اليومية.
كذلك ربما يعطي إبراز هذا الكتاب في الوقت الراهن دفعا لمؤلفين فيكتبوا في تقعيد نحو وصرف الحسانية أو يؤلفوا موسوعة شاملة تحفظظ مفردات هذه اللغة الغنية فيثبتوا على المهارق ما في الصدور من شتات الثقافة الحسانية أو غير ذلك مما يخدم هذه اللهجة,
ويبقى السؤال المطروح لمن كتب هذا الكتاب؟ هل كتب للزنوج القارئين للعربية أم غيرهم هذا ما سيجيبنا عنه الدكتور سيد أحمد بن الأمير مكتشف الكتاب ومحققه .
وفي الختام نشكركم على الحضور والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيكم أستاذنا الفاضل، موضوع شيق وكتابة رصينة، وتتبع شامل للموضوع، بارك الله فيكم لقد أفدتم وأجدتم
حياكم الله