إنه لمن المريح والمفرج ما بدأنا نشاهده عند مواطنينا من مؤشرات تدل على أنهم بدأوا يعون ضرورة التخلي عن كثير من المسلكيات التي لا تتماشى مع متطلبات الحياة المدنية، والتحلي ببعض الفضائل التي لا يتم تقدم المجتمع وازدهاره إلا إذا تشربها بحيث تصبح جزءا من شخصيته وسلوكه يمارسها بدون تكلف ولا معاناة.
من هذه المؤشرات احترام الطابور أمام الشبابيك العمومية فقد ولى – والحمد لله- العهد الذي كان فيه مرتادو المرفق العمومي يتزاحمون تزاحم الإبل الهيم على الحوض طلوع الثرياء بالفجر، أو كالحجاج على تقبيل الحجر الأسود، ضرْب ولكْم وصِدام لا يلوي فلان على فلٍ.
كانت هذه سيماهم التي يعرفون بها يمارسونها حتى في المطارات الدولية الأجنبية حتى أن بعض عمال تلك المطارات كانوا يصفونهم بالوحشية والهمجية وخيرهم من يسدي إليهم النصح- إذا اشتد العِكاكُ- قائلا: رويدا يا إخوة بالتي… بالتي، (هي أحسن).
ومن هذه المؤشرات أيضا أنهم صاروا يغضبون إذا رأوا أحد وكلاء المرفق العمومي يحابي أحد الزبناء بأن يسوي له مشكلته خارج طابور بمرأى ومسمع من أهل الطابور، فيكيلون له الشتائم وعبارات الإنكار والاشمئزاز، ويرون ما قام به هذا الوكيل هو الجور والأثرة التي تقبل في مجتمع يؤمن بأدنى قدر من العدل والإنصاف وتنشد حالهم في ذلك قول الشاعر:
وليس يثير كالإيثار شعبا***وكم شعب على الإيثار ثارا
ومن هذه المؤشرات أيضا أنه واضح لا ضير على شخص عزب أن يكتري بيتا أو شقة يسكنها ولو كان في المدينة دور كثيرة من ذويه من بني عمومته وخؤولته وأصدقائه، وأصبحوا هم كذلك لا وصمة عليهم في أن يستقل قريبهم بنفسه بعيدا عنهم فقد ولى الزمن الذي كان العار كل العار في أن يتخذ الشاب العزب مكانا خاصا به وينشئ “حقيقة” خاصة بنفسه وله عن ذلك مندوحة من أهله ومن يعرفه ومن يعرف من يعرفه، فيه غضاضة عليهم هم وعليه هو: ما لهذا الرجل يتخذ بيتا أما له أهل يأوي إليهم؟! وقد كان منشأ هذه الوضيعة وضعيات أقل ما يقال إنها غريبة بحيث يسكن في الدار الواحدة العشرات ممن لا يربطهم إلا انتماء مقرض إلى جد قديم أو حلف أقدم وكان على رب الدار أن يوفر لهم كل يوم مائدة كمائدة عبد الله بن جدعان يأكل منها الراكب والراجل ويستظل بها الناس صكة عمى.
وكانت نعال ساكنة الدار تكون على عتبة الدار أكواما كالتي نشاهد على أبواب الحرم المكي، حدثت أن بعض الزوار عثر ببعض تلك الأكوام فسقط على ظهره فرُضَّت رجله فأعجب ذلك المشاهدين وتناقلته وكالات الأنباء المحلية دليلا على كرم رب الدار وكثرة من ينتاب بيته المورود.
ومن هذه المؤشرات أيضا قبول بعض الشباب من ذوي البشرة الفاتحة بتعاطي بعض المهن والحرف التي كانت في القديم حكرا على طوائف من الناس، فلا جرم أنك ترى اليوم الشاب ممن ذكرنا وقد لبس بذلته الزرقاء وتأبط حاوية آلاته ودخل المرآب فبدأ يعالج الكابح والعفريت ويلوي الحديد المسمر.
وقد كنت قديما أقول لبعض الإخوان ممن يغارون على كرامة البلاد ويريدون لها الخير والتقدم ويستعجلون ذلك من شدة الاشفاق، كنت أقول لهم: لا تتعبوا أنفسكم، فما دمتم لم تروا الشاب الأصفر الوسيم ذي الميسم البراق والشعر الجُفال، وقد تعرى من ثيابه إلا لبسة المهنة وتراكم الزيت على مؤخرة برقعه وعلى رأسه سفعة من رذاذ البنزين ومتلبد الشحم..، ما دمتم لم تروا هذا المشهد عاديا متكررا فلا ترجوا لبلادنا هذه خيرا.
واليوم- والحمد لله- قد بدأنا نشاهد مثل المشهد. هذه مؤشرات خير. وثم مؤشرات أخرى تدل على العكس نرجو أن تزول إن شاء الله والظن بالأمة الموريتانية أنها أمة يغلب خيرها شرها، على ذلك برهنت في الماضي والله يتبع- إن شاء- أول الأمر آخره.
الاستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف