هذه رسالة الكوس كتبها محمد فال بن عبد اللطيف كان الله له بمنه وكرمه وهي عبارة عن رسالة يخاطب فيها بعضهم أخا في الله ترك البادية وفضل الإقامة في نواكشوط العاصمة.
قال المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
اعلم أيها الأخ نصرك الله وأيدك أينما كنت أنك كنت في مجتمع بدوي بسيط ساذج مقبل على ما يعنيه موافق في ما لا حرج فيه تعرف أهله ويعرفونك وتألفهم ويألفونك لا يزيدك عندهم نعلك ولا ينقصك قميصك مع قوم شاهدوك بالأمس تدرج في صباك أحمر كما خلقك الله لا تزيدك عندهم مطارف الخز ولا نفيس البز ولا الساعة اليابانية ولا السيارة الألمانية إن أحسنت لم يشكروك وإن أسأت لم يعيبوك أنت في الأولى تابع لآبائك وفي الأخيرة مبتدع من عند نفسك والأعذار قائمة لك إن شاء الله.هذه رسالة الكوس كتبها محمد فال بن عبد اللطيف كان الله له بمنه وكرمه وهي عبارة عن رسالة يخاطب فيها بعضهم أخا في الله ترك البادية وفضل الإقامة في نواكشوط العاصمة.
قال المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
اعلم أيها الأخ نصرك الله وأيدك أينما كنت أنك كنت في مجتمع بدوي بسيط ساذج مقبل على ما يعنيه موافق في ما لا حرج فيه تعرف أهله ويعرفونك وتألفهم ويألفونك لا يزيدك عندهم نعلك ولا ينقصك قميصك مع قوم شاهدوك بالأمس تدرج في صباك أحمر كما خلقك الله لا تزيدك عندهم مطارف الخز ولا نفيس البز ولا الساعة اليابانية ولا السيارة الألمانية إن أحسنت لم يشكروك وإن أسأت لم يعيبوك أنت في الأولى تابع لآبائك وفي الأخيرة مبتدع من عند نفسك والأعذار قائمة لك إن شاء الله.
ثم قدمت ــ مرحبا بك ــ إلى هذا المجتمع الحضري الذي يجمع شذاذ الناس من أهل الآفاق صالحين ودون ذلك غربيين وشرقيين وبين ذلك لا يعرفون من حقيقتك إلا ما ظهر منها وأنت محمول على الجرحة حتى يثبت خلافها نسبك مجهول وظاهرك معلوم والشر بك مظنون وأنت على لباسك وقماشك ورياشك حتى تفصح عن حقيقة نفسك فإذا حسبت أن ذنبك لا محالة مغفور وإحسانك مشكور فقد أخطأت فالبس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها.
إلا أن ما ذكرنا هاهنا لا ينافي ما اشتهر عن أهل بلادنا هذه من الشهامة والكرم والكرامة فهم ــ والحق يقال ــ ما زالوا بخير، إنهم يفضلون الكريم على البخيل ويكرمون الضيف ويسعفون الضعيف يعجبهم المنزل الكثير الزحام الممتهن سطحه بالأقدام ويكرهون الفراش القفار لا وسخ فوقه ولا كشكار لم يره أحد ولا يعرفه أحد وما زالوا يرون أن من فتح بابه واستقبل من انتابه خير ممن أقفل بابه وحرش كلابه وما زالوا يعجبون بقول طرفة بن العبد:
[| [( أرى قبر نحام فقير بماله**** كقبر غوي في البطالة مفسد )] |]
ويهشون لحكايات حاتم الطائي وكعب بن مامة الأيادي ويبغضون ما يروى عن مادر ويرونه من أبشع النوادر وما زالوا يطربون لباب الأضياف من كتاب الحماسة ويعجبهم وما زالوا يرون أن قفل الباب من خارج وصمة تحرجهم وينشدون:
[| [( أعوذ بالله وآياتـــــــــــــه **** من باب من يقفل من خارج )] |]
وبالجملة فأهل هذا البلد ما زالوا أولي بقية من الكرم العربي الأصيل والأخوة الإفريقية القعساء متعارفين فيما بينهم شركاء فيما عندهم.
وأنت ــ أيها الأخ ــ إذا قدمت إلى هذه المدينة فلا شك ستجد من يعرفك أو تعرفه فتكون عنده حتى يجعل الله لك سبيلا، ولا أنصحك بشيء بعد تقوى الله ما أنصحك بالظرافة فاحذر كل الحذر أن توصف بالثقل فقد أنزل الله تعالى في الثقلاء ما أنزل وقال فيهم الأدباء فأشبعوا ولا يعجبني قول بعضهم جالس كل أحد فإن كان يحبك أكرمته بذلك وإن كان يبغضك عاقبته فإن هذا هو محض الرقاعة التي حدثت عنها.
واعلم أن سكناك في غير بيتك عند بعضهم هو عين التطفل وقيل هو غيره والله أعلم. وقد اختلف أصحابنا في اشتقاق الكوس فقيل هو مشتق من الكياسة وهي الفطنة وفي الحديث الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. ويؤيده تسمية الكياسة بالكوسى قال الشاعر:
[| [( فما أدري أجبنا كان دهري**** أو الكوسى إذا غلي الحزيم )] |]
وقيل هو مشتق من الكأس لأن تكوس أهل كأس وشراب وقيل هو مأخوذ من كاس البعير كوسا إذا مشى على ثلاث قال الشاعر:
[| [( ولو عند غسان السليطي عرست**** رغا قرن منها وكاس عقير )] |]
والأمر المتفق عليه أن التاء من تكوس زائدة وأنها على صيغة الفعل المضارع كقولهم تحيط للسنة المجدبة وتموت من أسماء النساء قال: سميتها إذ ولدت تموت والذي ظهر لي أن بين التطفل والكوس عموما وخصوصا من وجه فقد يوجد كائس غير متطفل ومتطفل غير كائس وقد يجتمعان. وأحسن ما سمعت في حد التطفل ما أنشدنيه بعضهم يوما على أحد كثبان العاصمة قال:
فـــي بلـــــد إذا الفتـــــى أتــــــــــــــــــاه***لـــــــــــــم يلـــــــف باباه ولا ماماه
فالمتــــرشح إذا تــــــــــــــــــــــطفــــــلا***جــــــــاز له أمـــــــــا الموظف فلا
وطالب المنحة فــــــــــــــــــــــيه يختلف***ثالــــــــثها إن كـــــــــــان قدم الملف
جــــــــــاز بعكس تـــــــــــــاجر وطالب***إلا إذا لازمــــــــــه في الـــــــــغالب )] |]
وقد ذيل بعضهم هذه الأبيات بقوله:
[| [( هذا إذا ما أمكن التطفل***فالباب قد يحرس أو قد يقفل )] |]ويعجبني في الموضوع قول الأول:
[| [( تطفل البطرون ليس يـــــحرم****لكنــــــــــــه لزوم ما لا يلزم
وقيل بل شيء ـ ولا يسمـــــى****تــــطفلا ـ دل على معنى ما )] |]
وعلى كل حال فقديما قالت العرب لا يكون الرجل سيدا حتى يسره ما لا ينفعه ويسوءه ما لا يضره ويأكل عنده من لا يعرفه وتلك لعمري أخلاق البطارين. فإذا قيض الله لك بطرونا يؤويك ويضم رحلك إليه فاشكر له ذلك على أليق وجه وألبقه فإن من لم يشكر الناس لم يشكر الله والناس يكرهون كفران النعم قال عنترة:
[| [( نبئت عمرا غير شاكر نعمتي **** والكفر مخبثة لنفس المنعـــــــم )] |]فلا جرم يجب عليه أن تعرف معاملة البطارين وتأخذ لكل أمر عدته. واعلم أن رب الدار أيا كان هو بطرون أهله وقد يكون له بطانة من أمثالك يزينون له ما يأتي وما يذر حتى يظن نفسه أحصف خلق الله رأيا وأرجحهم عقلا وخلق الإنسان ضعيفا. قال أحد الظرفاء: لقد جاءكم فلان ــ لبطرون سماه ــ فانظروا ما أنتم صانعون معه فإنه لا يرضى إلا أن يكون الأمر أمره والخلق خلقه والحلال ما أحل والحرام ما حرم والدين ما شرع والأمر ما قضى.
وأنت أيها الأخ عليك بالسكوت أمام هذا النوع من البطارين وكن في الناس كأحدهم ولا تنس أنك لست صاحب الأمر والنهي وقم حيث أقامك الله ولا تتعد طورك فتهلك. وإذا قدر الله أنك كنت مقرئ الصبيان أو ساقي البستان فاعمل ــ إن شاء الله ــ على أن لا تهين القرآن بإهانتك نفسك ولا ترض وأنت حامل كتاب الله العزيز أن تكون لعبة في يد طفل مدلل يعاملك ككلبه ودراجته والأشياء المحيطة بشخصه وكلمة الله هي العليا.
قال أهل الكوس: لنا في استمالة قلوب رب البيت حيل كثيرة وكلها مجد ونافع، منها ترقيص صبيانه ودعاؤهم بأحب أسمائهم إليه والشهادة له إذا زعم شيئا وسؤاله عن أمر يود الحديث عنه ولم يجد له موجبا ومجادلته قليلا ثم الرجوع إلى قوله ليكون له حظ الغلب ويكون الرجوع إليه عن بصيرة. ومن آداب القوم السكوت إذا سكت رب البيت والانبساط إذا انبسط والسؤال عما يبدي وترك السؤال عما يخفي كل ذلك حسب ما يقتضيه الوقت والبساط.
ومما يعزى إلى أبي زيد السروجي قوله ما رأينا أنفع من السكوت للطفيلي ولذا ذم العرب الطفيلي المقترح. وقد قيل في الشهادة للبطرون أن متنظر مائدة صاحب الحانوت ليس هو أول من يكذبه وقد اشترط العلماء التبريز في شهادة المرء لبطرونه ولكن الأصح ردها مطلقا وقد قيل:
[| [( شهادة المرء لبطرونـــه****مردودة الـشكل ومضمونــــه
مبــاشرا وقيل مـــردودة ****في حق من يدعون من دونه )] |]
قال بعض من لاقينا من تكوس: ليست ملازمة البطرون شيئا لازبا أيعجز أحدكم أن يكون له في المدينة ثلاثمائة وستون صاحبا يدور عليهم في السنة لكل واحد منهم يوما أتراهم يملونه بزيارة يوم واحد في السنة.
واعلم أن الترحيب وحده لا يكفي إلا إذا صاحبه إكرام وبشاشة ظاهرة وقد قال الأعرابي:
[| [( يا مرحباه بحمار عفرا****إذا أتى هيأته لما يشا**** من الشعير والحشيش والما )] |]
وقال الآخر:
[| [( يا مرحباه بحمار ناجيه****إذا أتى هيأته للسانيـــــه )] |]
وشتان ما بين المرحبين. العبرة بشاشة الوجه وما يصدقها من عمل وقد جفت الأقلام بما هو كائن.
ومن أصعب ما أنت واجد بعد إيوائك ما ستتنقل به داخل المدينة وكيف تعمر أوقات فراغك وما يعرض لك من معاملة أهل الحرف المهمة وما يجر إلى ذلك مما يحتاج فيه إلى تدريب حكيم مدرب مدبر يأخذ بيدك أول الأمر حتى يشتد ساعدك وتقوم بنفسك. فاعلم ــ ألهمنا الله وإياك السداد ــ أن هذه المدينة من أعظم المدن وأن من خصائص المدن العظام والأمصار الكبار أن يجد فيها كل أحد طلبته فإن كنت من أهل الجد والعزيمة فإن أهل الجد والعزيمة موجودون بكثرة والحمد لله وإن كنت من أهل اللعب والبطالة فأهل اللعب والبطالة متوفرون كذلك والحمد لله أما إذا كنت من أهل حب الفرجة فدور السينما قائمة أو من أهل الثقافة فالمراكز مفتوحة أو من أهل العبادة فالمساجد عامرة ولكل من هذه المواضع أدب خاص وسلوك متبع.
وقد سلط الله على المصلين في المساجد من يذهب بنعالهم حتى أصبح ذلك مما يعرف به أهل المساجد الذين هم أهلها من غيرهم يقولون فلان ذهب نعله فهو ليس من أهل المساجد إذ لو كان منهم لحرسها من الأيدي فالحق أنه ما كل من يرتاد المساجد خاشع القلب ولا غزير الدمعة وإذا كان الناس يسرقون في الحرم المكي فلا تطمع أن يتورعوا في مسجد السبخة أو الميناء. فاحفظ أيها الأخ نعليك واجعلهما سترة بين يديك فحفظ المال واجب والصلاة في الجماعة سنة إلا إذا كانت نعلك من نعال الرئة فتلك لا خوف عليها من يد السارق إذ السارق إنما يخاطر في النفيس وغالبا ما تكون نعال الأصحاب من هذا النوع الرخيص ولذا قال أحمد الظرفاء المعاصرين:
[| [( وتعرفهم سيماهم في نعالهم****وأثوابهم مشقوقة القبل والبعد )] |]
والمساجد تجمع أنواع الناس أهل الأمزجة المختلفة والآراء المتباينة من فقهاء ووعاظ وفقراء وأغنياء. قال أحد الأصدقاء: لا شيء أحسن على السيارة الجديدة من وقوفها بجانب المسجد. ويسمع المرء في المساجد ما يفيده في الدنيا والآخرة من فرع غريب أو نكتة بديعة أو فائدة جليلة أو مذكرة نفيسة فإن كنت أيها الأخ كما عهدتك حريصا على العلم فلا تعد عيناك عن المساجد فزاحم بركبتيك عمارها وتعرف زوارها بيد أنه يجب أن تتبصر في ما تسمع فما كل ناطق مصيب ولا كل سميع مجيب ولا كل كلام صدق ولا كل موعظة حق ولا شك أنك ستسمع مواعظ كثرة ونصائح أثيرة فما أثار فيك الخشوع فأنت المقصود به وما ترك قلبك باهتا فعد عنه واخش أن لا يكون قائله صادقا في أمره ذلك فإنه من المسلم به أن المواعظ إذا صدرت عن قلب خاشع كان لها تأثير عجيب في القلوب ألا ترى إلى الذين يقرءون ما جاء في ذم الدنيا وهم مع ذلك يخنقون الديك على الحبة لا تجد لوعظهم تأثيرا لا قليلا ولا كثيرا ولعل الوعظ يقوله أهل الدنيا المجاهرون بحبها أكثر نفعا لسلامة قلوبهم من الرياء ولكل امرئ ما نوى.
يتبع في الجزء الثاني إن شاء الله