الرئيسية / تأبين الشيخ أحمد بن ببها رحمه الله / الشيخ البركة أحمد بن ببها في ذمة الله

الشيخ البركة أحمد بن ببها في ذمة الله

هل غادر الشعراء متردماً، وهل ترك المدونون موضع إصبع، وهل نسي المعزون شطر كلمة يؤبن من خلالها نازح عن الوطن رجلاً لا كالرجال، وشيخاً تذكرك بالله طلعته، وولياً تنفعل الأشياء بهمته، وول خيمة اكبيرة تكاملت فيه شروط الفتوة، وسيداً كريماً عجزت نساء تشمش أن تلدن مثله.

فلو طرز الراثون فيك قــــصائداً * لما ذكرت إلا القليل القصائد
و لو قال فيك القول قس مـنمقاً * فكان معاداً وهو للقول عائد

كنت في محطة “امْشِيرِبْ” أستعدُّ لتبديل مترو الأنفاق، حين وصلتني صوتية، ينعي صاحبها الحلاحل أحمد الملقب “احْمَيْدِيتْ” بن القاضي محمذن الملقب “امَّيَيْ” بن تاج العارفين محمد فال الملقب “بَبَّهَا” بن العلامة البركة محمذن الملقب “مَامَّيْنْ” بن القاضي المدرس أحمد بن العالم محمد العاقل بن الشيخ الماح بن الحاج المختار أكد عثمان، فاعتصر الحزن قلبي فوراً، ومارت بي الأرض موراً، ونظرت من حولي فإذا أنا واقف بين زرافات من المشجعين، تطلق حناجرها بأناشيد تشيد وتؤيد فرقها الوطنية، فقلت في نفسي، لو أن هذه الجموع عرفت ما عرفت عن هذا الرجل وسمعوا ما سمعت آنفا عن نعيه لانقلب فرحها ترحاً، ولغير الرجال قمصانهم الصفر والحمر والخضر بغرابيب سود، ولبحثت النساء عن محل صاحبة الخمار الأسود، ولنكست الأعلام ووقف الجميع دقيقة صمت احتراماً وتقديراً لروحه الطاهرة، يَغِيرْ الدِّنْيَ اكْصَيْفَ وَالمايَعِرْفَكْ يَخِسْرَكْ، وقد شاطرت السيدة اللولُّ بنت حمداً بن التَّاه انطباعها عن يومها الدراسي الأول في نواكشوط حيث قالت ” أهْلْ المعْهَدْ مَاهُمْ عَالمْينْ بَأْهْلْ بَبّها”.

أ “أحمد” من نعى الناعي فتبت * يد الناعي غداتئذ و تبّا
مصـــاب شــب نار أسى لدينا * ولكنا صبــبنا الماء صبا

ولد الشيخ الصالح احميديت مطلع في شهر ديسمبر 1933، وتربى في بيت عز وشرف فجمع علم وعمل أهل العاقل إلى صلاح وقبول آل باهنين، فأحاطه والده القاضي اميي برعايته ورباه تربية خاصة؛ فدرسه شرح لمرابط أحمد بن العاقل لكبرى السنوسي، وطرة الشيخة العالمة غديجة على سلم المنطق للأخضري وشرحها على الطيبية، وشرح الشيخ محمذن بن أحمد العاقل لوسطى السنوسي، كما أخذ الفتى احميديت عن والده مؤلفات جده لمرابط ببها كدمية المحراب، ونظم فواصل السور، والمواهب الأحدية في الشمائل الأحمدية، وأنظامه في السيرة والشمائل كالطواري، ونظم جدات النبي صلى الله عليه وسلم، ونظمي الصحابة والصحابيات الذين رووا أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى نفحة الياسمين، وتحفة الأطفال، والمسائل العشر، وترياق اللسع في المسائل التسع وغيرها، كما أخذ عن عمه القاضي حامد بن ببها منظومات لمرابط امحمد بن أحمد يورة في أصول الفقه، والإبدال والفرائض، وشوارد الفقه.. موازاة مع ذلك التحق كغيره من أبناء الأعيان بالمدرسة النظامية، فكانت مناهجها كالمنطق عنده، فصار أحمد بن ببها نادرة عصره وأعجوبة قطره علماً وأدباً وصلاحاً وقبولاً.

و عرفت فيه من أبيه شــمائلاً * نبـــوية كســـلافة بمــعين
و عرفت فيه من أخيه و جده * نورين نوري حكمة و يقين
و عرفت فيه من شذى أخواله * عرفاً يحــقق برء كل حزين

ينتمي الإداري احميديت إلى الرعيل الأول من الموظفين الذين آمنوا بمشروع الدولة الموريتانية، وكرسوا حياتهم وخبراتهم في سبيل تحويله إلى واقع، فتحملوا آلام عملية الولادة القيصرية للدولة، وحققوا آمال شعب كان يرزح تحت نير محتل عرف بنهب خيرات المستعمرات، وقد خدم البلاد والعباد من خلال عمله في عدة قطاعات حكومية؛ كجهاز الشرطة والإدارة الإقليمية ومفتشية الصيد البحري، وقد طار ذكره وحمدت سيرته ومدحه الشعراء، فكان إدارياً مهاباً قوي الشخصية يتمتع بكاريزما القائد المحنك، كما كان لين الجناب للضعيف والمسكين ولا تأخذه في الحق لومة لائم. وبعد استفادته من حقه في التقاعد، نشط في مجال حماية البيئة وأنشأ محمية طبيعية في قرية ابيرالتورس، جعلها خلوة ومتعبداً، فاعتزل الخلق وتفرغ للخالق، متدبراً في ملكوت الله، ذاكراً لربه ليلاً ونهاراً مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة، صائماً لرمضان وحاجاً لبيت الله، حتى أتاه اليقين عن عمر ناهز التسعين رحمه الله وتقبل منه صالح العمل.

يا طلعة ولت و كانت دأبها * كسب العديم و نصرة المسكين
من للأمور يريـــدها فيديرها * تدبـــير لا نزق ولا مـــأفون

كان الشيخ احميديت سخياً أريحياً كثير القيام والصيام والإطعام، تعمُّ فوائده وموائده الجار والقريب والمعتر وعابر السبيل، ويتفق جميع من عرفوه أنه لا يسلم زائره من هداياه وعطاياه المكررة المعاده، فكم من عطر فرنسي أهداه وكم ساعة سويسرية أعطاها، أما ماله الصامت والناطق فقد سلطه الله على هلكته فما تعطي يمينه لا تعلم به شماله.

بمكتـــبه وإلا فالقــضــايا * معطـــلة و مشكــــلها تأبى
و عند رحاب منزلـه وإلا * ستــلتقط الجياع الشعث حبَّا
تراهــم يبتغون لديه خبزا * ومشـــويا وفـــاكــــهة وأبَّا

كان الشيخ احميديت من عباد الله الصالحين، مجابي الدعوة الذين تنفعل الأشياء بهممهم، وكان محباً للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كثير المرائي له، ورغم تكتمه على فتوحاته وفيوضاته اللدنية، إلا أنه ربما أسر لبعض خاصته ببعض اللطائف والأسرار التي تشي بعلو كعبه في مجال التصوف والترقي في مقامات الإحسان من الجمال إلى الجلال فالكمال، وسأثني العنان عن ذلك الميدان، فذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله على كل شيء قدير.

باطن الشرع تحرّى طرقه * وتخــلّى وتحلّى فاضطلع
قاظ واصطاف لدى أربعه * فهي حزواه وأشتى وارتبع

تنتهز أسرة موقع أخبار انيفرار هذه السانحة لتقدم تعازيها القلبية الصادقة لعموم الشعب الموريتاني وساكنة ولاية اترارزة وأحياء منطقة إكيد، ودوحة أهل العاقل الكريمة، وتخص بالتعزية أسر أهل احميديت وأهل ببها وعبدو ابني محمد فال وأهل باهنين ، أهل أحمد يوره، راجية من المولى عز وجل أن يرزقهم أجر الصبر وحلاوة التسليم، وأن يتغمد الفقيد برحمته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة.

أمست ديارك أيها الـميمون * و العلم منها بالربى مدفون
فتهللي بشرا ربى الميمون قد * وافى ديارك وافــد ميمون

اترك رد