بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبيه الكريم
ندوة الشيخ محمد اليدالي ونتاجه الفكري (قراءة في التراث الموريتاني)
تقديم لكتاب “الحلة السيرا في أنساب العرب وسيرة خير الورى” للشيخ محمد اليدالي (ت 1166 ه)
الحسين بن محنض
مقدمة
كتاب “الحلة السيرا في أنساب العرب وسيرة خير الورى” كتاب جليل حافل، فريد في بابه كما هي عادة الشيخ رحمه الله تعالى في مؤلفاته في كل الفنون، فكل فن يؤلف فيه
الشيخ محمد اليدالي يظهر فيه تفرده وتفوقه على غيره. والكتاب سفر ضخم، جمع فيه الشيخ الكثير من أنساب العرب وأيامهم وأشعارهم وأخبارهم إضافة إلى فوائد أخرى كثيرة. وهو
زبدة جامعة لمضامين كثير من كتب السير والأنساب والتراجم والتاريخ والمعارف المتنوعة.
مصادر الكتاب
يرجع الشيخ كتابه هذا إلى مصادر عديدة ذكر بعضها في مقدمته، بقوله:((وأخذت هذا النسب من عدة كتب كالقلقشندي (صاحب صبح الأعشى في صناعة الإنش)، وعليه جل اعتمادي، وابن زاكور (سيدي محمد بن زاكور الفاسي صاحب تزيين قلائد العقيان بفرائد التبيان للفتح بن خاقان)، شرح قلائد العقيان، والكَلاعي (صاحب الاكتفاء بسيرة المصطفى والثلاثة الخلفا)، والإصابة، وتكميل المرام، وشروح البخاري، والموطأ، وشرح الحماسة، والجوهري، والقاموس، وكتب السير وحواشيها، وزهر الأكم، وغير ذلك. ومما لم يذكر الشيخ من مراجعه التي رجع إليها في ثنايا كتابه: تاريخ الخلفاء للسيوطي، ووفاة الأعيان لابن خلكان وغيرهما.
ما يتميز به الكتاب عن مصادره
يبين الشيخ محمد اليدالي أنه لم يقتصر في الأخذ من مصادره على الجمع والاختصار والتنظيم والتبويب فقط، بل زاد على ذلك بالتوجيه والتقريب والاستنباط والاستدراك وكشف المخبآت، رغم أنه لم يجد في بلاده ماهرا في هذا الفن يعتمد عليه فيه، حيث يقول عند الحديث عن موضوع كتابه: ((وخضت بعض تياره، وكشفت بعض أسراره، واستنبطت بعض معينه، واستخرجت بعض دفينه، واهتصرت من أغصانه النضرة، وتنسمت من نسماته العطرة، واقتطفت من يانع أزهاره، وارتشفت بارد ثغور أبكاره، فخدمته صلى الله عليه وسلم بذكر ذلك النسب الشريف، والحسب المنيف، والشرف الباذخ التليد والطريف، وذكر بعض أحواله وأزواجه وذريته وصحابته وآله…)). مضيفا: ((على أني لم أر ماهرا أعتمد فيه عليه، وأرجع عند المعوصات إليه، فأتيت بهذه العجالة تعجيلا لقرى المستفيد، واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد، ليعم نفعه البلاد، ويتعاطاه الحاضر والبادي، جمعت فيها على وجه الاختصار، ما لم يجتمع في غيرها من الكتب
الكبار)).
سبب تأليف الكتاب
يعرب المؤلف في مقدمة كتابه عن سبب تأليفه له بقوله:
((الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي طابت أرومته، وأفصحت عن كرم المحتد جرثومته، والذي له من نصاعة الحسب، وعتاقة النسب، ما يقر به الأصاغر والأكابر، وتعترف له به قريش البطاح وقريش الظواهر. وبعد فلما كان العلم بأنساب العرب صارت رسومه دواثر، وعادت جدوده عواثر، وأسواقه كواسد، ومخدراته قواعد، وأشخاصه متوارية، وأزناده غير وارية، وبواتره صدئت في أغمادها، وشهبه قذيت برمادها، وتقلص ضافي برده، وتكدر صافي ورده، فأصبح مهجورا، كأن لم يكن شيئا مذكورا. وكان نسبه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب، وسببه أفضل الأسباب، وكان العلم بنسبه صلى الله عليه وسلم وببعض أحواله وما يتعلق بذلك فرضا على الأعيان، وشرطا في كمال الإيمان، وفي الدر النظيم كما في اللؤلؤ أن معرفة مولده ونسبه وصفاته وعمومته واجب، وأجل ما عرفته هذه الأمة، وأجمل ما طمحت إليه الهمة، تداركت منه الذماء الباقي، وتلافيت له نفسا قد بلغت التراقي)).
تسمية الكتاب وأصلها
قال الشيخ محمد اليدالي في مقدمته: ((ولما اشتمل هذا الكتاب على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أنساب العرب، سميته الحلة السيراء في أنساب العرب وسيرة خير الورى))، دون أن يذكر شيئا عن أصل التسمية الذي يبدو أنه الحديث النبوي الذي ذكر فيه أن أكيدر دومة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء. قال ابن الأثير: “هو نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور”. فكأن الشيخ محمد اليدالي استعار اسم هذه الحلة البديعة لكتابه هذا الذي أراد له أن يكون بديعا مثلها. ولا نعلم كتابا سمي بالحلة السيراء غير هذا الكتاب، وكتاب الحلة السيراء في شعر الأمراء لان الأبار الأندلسي المتوفى 658 ه، الذي ألفه أثناء خدمته للسلطان أبي زكرياء الحفصي صاحب تونس، ولا أدري هل اطلع عليه الشيخ أم جاءت التسمية اتفاقا، فإن كان اطلع عليه فهذا دليل على أن المكتبة الأندلسية والمغربية كان لها حضور أكثر مما نعرف في فترة مبكرة من تاريخ هذه البلاد، ينبغي أن يمثل حافزا للبحث عن هذا الكتاب في
المكتبات الأهلية الشنقيطية لأنه لم يعثر في العالم إلا على نسخة وحيدة من كتاب ابن الأبار هذا، عثر عليها في الاسكوريال وعنها نقلت كافة النسخ الموجودة في العالم، وهي نسخة
ناقصة، لم يوجد حتى الآن ما هو مفقود منها، وعسى أن يوجد في هذه البلاد، وإن كان لم يطلع عليه فلا شك أن تسمية الشيخ محمد اليدالي أوجه من تسمية ابن الأبار لما بين المسمى
والمسمى عليه هنا من المناسبة.
مضمون الكتاب:
بدأ الكتاب بالكلام على العرب وتقسيمهم، وطبقاتهم ومساكنهم وفضلهم ودياناتهم قبل الإسلام، وعلومهم وأيام حروبهم ونيرانهم وأسواقهم ومفاخراتهم بينهم، وعلى الحمس وقريش وفضلهم، قبل أن يصل إلى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره وأوصافه وأحواله وآله، متطرقا إلى ما قصده من سيرة وأنساب العرب، ثم ختمه بكتبه صلى الله عليه سلم وشرح غريبها، فتعرض فيه لفضل علم السيرة وفائدته، قبل أن يفصل الكلام عن العرب، ثم ذكر ما يجب على المكلف معرفته من سيرته، ومنه عمود نسبه الشريف، ومنه معرفة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم من مولده إلى وفاته، ومعرفة أزواجه وذريته، ومعرفة خلقه وخلقه.
وخصص الشيخ اليدالي القسم الأول من كتابه لنسب العرب العدنانية مركزا على النسب النبوي الشريف، بينما خصص القسم الثاني لنسب العرب القحطانية مبينا مآثر الأوس والخزرج.
ولم يقتصر كتاب اليدالي هذا على مجرد أنساب العرب وتاريخهم، بل امتد ليشمل السودان والزنج والنوبة والهند وكنعان وغيرها.
مكانة الكتاب:
كان لهذا الكتاب تأثير كبير في الوسط الثقافي الموريتاني عموما ولدى المؤلفين في السيرة خصوصا، ولئن كان تفسير الشيخ هو أول تفسير شنقيطي معروف، فإن كتابه هذا هو أول كتاب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنساب العرب في بلاد شنقيط، فهو المرجع الأول في هذا الباب لكل من جاء بعده من الدارسين والمؤلفين، ولذلك ذاع صيته وكثرت نسخه، ولعله كان من مصادر البدوي الأساسية في أنظامه الشهيرة، حيث اعتمد عليه حماد في شرحه على البدوي، كما اعتمد عليه القاضي سيلوم في احمراره على البدوي، وكذلك الشيخ محمذن فال بن المرابط محمد سالم ولد ألما في كتابه تحفة الظرفاء في تاريخ الخلفاء، لكن الغريب كل الغرابة أنه لم يطبع حتى الآن بالرغم من قيمته العلمية الكبيرة، وحاجة الدارسين الماسة إليه، ولعل ذلك يتحقق قريبا بفضل الله تعالى وجهود هذه الزاوية المباركة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.