هذا مقال يتناول جانبا من نشاط فرنسا الجوي في مجالنا الموريتاني بعيد الحرب العالمية الأولى، وكيف كان في فترة من الفترات محل اهتمام الصحافة الفرنسية بالحديث وبالتعليق. جمعتُ مادة هذا المقال من عشر جرائد فرنسية يوجد أرشيفها على الشبكة، وقد صارت تلك التغطيات الصحفية مع الزمن جزءا من ذاكرتنا التاريخية.
في فجر الحادي عشر من شهر أغسطس 1919 غادر ثمانية ركاب مطار توسو-لنوبل (Toussus-le-noble) بمدينة مرسيليا في جنوب فرنسا متجهين إلى دكار على متن طائرة من طراز فارمان غوليات (Farman Goliath)، وهي طائرة صنعتها شركة فرمان الفرنسية، وكانت من مفاخر الصناعات الفرنسية في ذلك التاريخ. كان الركاب جميعهم من خيرة ضباط ومهندسي الجيش الفرنسي، وممن أبلوا بلاء حسنا في الحرب العالمية الأولى، وكان ربان الطائرة الرائد بوسترو يهدف من هذه الرحلة إلى المشاركة في مسابقة تنظمها رابطة الطيران الفرنسي يحصل الفائز فيها على مبلغ مالي كبير إن هو قطع أطول مسافة خلال رحلة جوية تربط فرنسا ببعض مستعمراتها النائية. كانت الفترة التي اختارها الفريق للتوجه إلى مدينة دكار عاصمة إفريقيا الغربية الفرنسية (AOF) في ذلك التاريخ فترة الأمطار ودرجات الحرارة المرتفعة وهو ما أثر على مجريات الرحلة ومسارها ونتائجها.
حرصت رابطة الطيران الفرنسي على أن يكون انطلاق طائرة غوليات نحو إفريقيا الغربية مناسبة عامة ومهرجانا إعلاميا، تغطيه الصحافة ويظهر على مانشيتات الجرائد وأغلفة المجلات، وتسمع به الأمم الأوروبية فتأخذ بذلك صناعة الطائرات الفرنسية مكانة، وتزيد سمعة فرنسا العسكرية والأمنية التي خرجت لتوها من حرب عالمية طحون.
مراحل أولية قبل الوصول للمجال الموريتاني
كان للطائرة غوليات محركان قويان وعدة كاملة، وقد انطلقت في مسارها نحو الدار البيضاء محلقة فوق جنوب فرنسا محاذية للشاطئ المتوسطي، لتمر عبر أجواء إسبانيا تاركة الأندلس وراءها لتدخل في السماء المغربية. وفي كل مرة كان الربان يخبر كل المحطات الجوية التي يمر فوقها سواء أكانت في فرنسا أم في إسبانيا بحال الطائرة عن طريق جهاز اللاسلكي (T.S.F.). في مساء نفس اليوم حطت الطائرة في مطار الدار البيضاء حيث بقي بها ركاب غوليات حتى اليوم الرابع عشر من الشهر فجعلوا الطرفاية بجنوب المغرب وجهتهم ليحطوا بها الرحال ويأخذوا البريد العسكري الموجه لعاصمة الغرب الإفريقي دكار وجهتِهم القادمة، مغادرين الطرفاية يوم 15 أغسطس مساء، بعد الفحص الفني الشكلي لأجهزة غوليات وبعد ملء خزانها من الكيروسين.
كان المسافرون، وهم يقطعون الجو جنوبا، يعلمون أنهم على موعد مع موجات حرارية هائلة وأشعة شمس حارقة لذلك اختاروا المساء لمغادرة الطرفاية حتى يكون معظم سيرهم ليلا تجنبا لتلك الحرارة النهارية القاتلة أثناء المرور بأجواء الصحراء الغربية ومن بعدها الأجواء الموريتانية. كان في عزيمتهم التوقف في تزنيت بجنوب المغرب ثم في نواذيبو ومنه إلى دكار. وكان القلق ينتاب الرائد بوسترو وهو يفكر فيما سمع عن حرارة الجو الموريتاني وعن كثبانها الرملية الشاهقة وصحاريها الشاسعة وما يتخلل ذلك من عواصف أو أمواج سراب في القيلولة يراها الرائي فيحسبها ماء حتى إذا جاءها لم يجدها شيئا. فذلك المجال على الأقل في جانبه الأرضي ظل حكرا على قوافل الجمال وعلى أحياء البدو من منتجعي مساقط الغيث.
من جهتها جندت البحرية الفرنسية ثلاث سفن في مواقع بحرية مختلفة وعلى امتداد الأطلسي تتراسل بإشارات لاسلكية مع طائرة غوليات وبالتناوب كل ثلاثين دقيقة لتحديد إحداثياتها ومعرفة أخبارها. وفي مرحلة مراحل السفر في تلك الليلة تأكدت السفن الثلاث أن الطائرة دخلت مجال منطقة نواذيبو؛ مما يعني أنها قطعت ثلثي المسافة بين الدار البيضاء ودكار. وقد صار أمل الركاب بإنهاء هذه الرحلة قريبا، وبالتالي سيكون بمقدور الرائد الطيار بوسترو المنافسة على جائزة الرابطة الفرنسية للطيران.
بئر خروفة بمنطقة إيگيدي.. الجزء المثير من الحدث
منذ تلك اللحظات التي تم فيها تجاوز منطقة نواذيبو عميت أخبار الطائرة غوليات عن سفن البحرية الفرنسية الثلاث، فكان آخر اتصال من بوسترو يؤكد أن الطائرة دخلت مجال نواذيبو (أو Port-Etienne كما في الإعلام الفرنسي)، فبدأ انقطاع الأخبار الذي كان كالصاعقة التي هدت النفوس وأصابت المتابعين لمسار الطائرة ومصيرها بالقلق. والمفاجئ أن خبر فقدان أخبار الطائرة غوليات وصل بسرعة إلى الصحافة الفرنسية فظهرت العناوين والأخبار والتقارير التي تثير من الأسئلة أكثر مما تعطي من الحقائق.
حاولت شركة فارمان لصناعة الطائرات أن تعطي تطمينات وترسل رسائل تهدئة، لكنَّ فَوَرَانَ الصحافة الفرنسية وحماسها ومتابعتَها القلِقةَ لأخبار الطائرة جعلت سيل تقارير تلك الصحافة المتشائم يبتلع تطمينات شركة فارمان كما ابتلعت صحراء موريتانيا طائرة غوليات. كان أبرز خبر في الصحافة الفرنسية يوم 17 أغسطس 1919 أن طائرة غوليات حطت اضطراريا بقرية موريتانية تسمى خُروفَه، وهي كما تقول الصحف الفرنسية قرية تقع على بعد 180 كلم إلى الشمال من مدينة سينلوي (اندر) السنغالية. وتؤكد تلك الصحف أن المسألة ناتجة عن تكسر تِرْبَاس داسِرة المروحة اليمنى للطائرة. تناولت الجرائد الفرنسية الكبرى في “مانشيتاتها” خروفة وهي بئر إيگيدية هادئة ونائية، وتحدثت عنها تلك الجرائد وكأن بها مطارا عالميا. بالغت الصحف في ذكر هذه البئر، ووضعت الخرائط التوضيحية التي ترسم اسم خروفه بالخط العريض وتميزها عن غيرها من الأماكن. تحدثت جريدة “لبيتي باريزيان” (Le Petit Parisien) في عددها الصادر يوم الاثنين 25 أغسطس 1919 عن الكابوس المفزع الذي أصاب الفرنسيين عندما شاع خبر غوليات، متسائلة لماذا هبطت الطائرة في خروفة؟ وقد حاولت أن تجد الجواب عند شركة فارمان لصناعة الطائرات حيث أكد لها السيد ديك فارمان أحد مسؤولي هذه الشركة أن مطار خروفة كان فعلا هو المحطة الموالية للطرفاية التي ستمر بها الطائرة في طريقها إلى دكار. ولعل هذه التصريحات التي صدرت عن مسؤولي شركة فارمان والتي ورد فيها ذكر خروفة أكثر من مرة -وهي لا تخلو من مغالطات حيث لا يوجد مطار ولا قرية بخروفه- هي التي جعلت الصحافة الفرنسية تضخم شأن هذه البئر وتجعلها في قلب الضجة الإعلامية، فتكرر اسم خروفه وتعاظم شأنه في الجرائد الفرنسية حتى صارت الرحلة المذكورة تسمى “رحلة مرسيليا/خروفة”.
في جريدة لوفيغارو الصادرة بتاريخ 25 أغسطس 1919 ذكرٌ لهبوط غوليات بخروفة، وأكدت لوفيغارو أن ركابها سيكونون في وضع صعب خصوصا وأن ساكنة خروفة وغيرها من مناطقة الترارزة يتجهون في موسم الخريف إلى جهة آدرار، بحيث قد لا يجدون من يسعفهم نظرا للتنقل الموسمي للساكنة.
بينما تقول جريدة لوماتان (Le Matin) في عددها الصادر بتاريخ 21 أغسطس 1919: “إن فرنسا كلها تعيش حالة قلق مع عدم الحصول على معلومات دقيقة عن ركاب طائرة غوليات بعد هبوطهم في مطار خروفه”، مما يدل على أن المسألة أصبحت قضية رأي عام فرنسي في ذلك الحين.
أمير الترارزة وإنقاذ ركاب غوليات
الواقع أن طائرة غوليات لم تنزل في خروفه، ولم تقترب منها وإنما حطت في مكان ما من المحيط الأطلسي قبالة الشاطئ الموريتاني. في صبيحة السادس عشر من أغسطس 1919 نزلت غوليات اضطراريا في خضم المحيط الأطلسي غير بعيد من الشاطئ الموريتاني وإلى الغرب من سبخة انتررت الشهيرة بمنطقة الترارزة. لم يستطع ربان الطائرة الرائد بوسترو تحويل اتجاهها أثناء الهبوط الاضطراري، لأنها كانت قد فقدت إحدى مروحياتها؛ لذلك رست في الماء وقد تعالت أمواجه المتلاطمة. حاول الركاب بجهد جهيد إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الزاد وجهاز اللاسلكي وغيرها والسباحة بذلك نحو الشاطئ الذي كان ينتظرهم بسَمُوم تلفح وجوههم، وشمس خريفٍ حارقة، فالركاب لم يكونوا يعرفون درجات الحرارة المرتفعة التي توجد في موريتانيا، وكان أصعب شيء بالنسبة لهم هو تحصيل الماء الشروب، فلم يكن عندهم عندما انطلقوا من مرسيليا سوى ما يكفي من الزاد لأربعة أيام، وشاطئ الأطلسي لا يسعف من عز عليه تحصيل ماء.
في مساء نفس اليوم قرر الركاب أن يتطوحوا جنوبا علهم يجدون ما يطفئون به غُلَّتهم، وعندما تركوا المكان كتبوا بالحروف الفرنسية على عمود ركزوه غير بعيد من الشاطئ هذه العبارة: “اتجه الركاب جنوبا”. لم يكن لهؤلاء التائهين قوة لمواصلة السير، فقد أنهكتهم ليلة من الطيران فوق المحيط ويومٌ حارقٌ على الشواطئ الموريتانية. كان الزاد الذي عندهم قليلا ومكونا من بعض العلب والبسكويت وقليل من الماء حيث كان مجموع ما عندهم منه ستةَ ليترات وليتريْن من القهوة، وكانوا يوزعون الحصص بعناية وتقتير تحسبا لمدة تيهٍ أطول. أرخى الليل سدوله والركاب الثمانية في خلاء من الأرض لا ترى فيه عوجا ولا أمتا ولا أنيسا ولا حسيسا، فناموا وقد تركوا أحدَهم يحرُسُهم. في الصباح شرَّق بعض الركاب علهم يجدون عين ماء أو حيا بدويا، لكنهم عادوا أدراجهم وقد أنهكهم التعب ولم يجدوا سوى سباخ مترامية الأطراف. قرر الجميعُ العودة إلى الطائرة القابعة على الشاطئ وأن يحاولوا أن يصنعوا من حطامها أداة لتقطير الماء حتى يحصلوا من ماء البحر الأجاج على ما يمكن أن يصلح للشراب. استطاعوا أن يعملوا ورشة تصفية بتطوير إنبيق أو أداة تقطير تحصلوا بواسطته على كمية معتبرة من الماء، ليست بملوحة البحر لكنها أيضا ليست بطعم الماء المعهود، إلا أنهم استعملوها شرابا. وبعدما نفدت البسكويت أصبح غذاءهم ما يقذفه البحر من سلطعون يشوونه شيا على نار أوقدوها بواسطة ما تبقي من وقود الطائرة. وقد ظلوا يقطرون ماء المحيط طيلة خمسة أيام بلياليها وفي كل ليلة يضرمون نارا لعل أن يراها أهل البادية فيسعفونهم وهم في هذا الشاطئ المقلق. وفي يوم 21 أغسطس صباحا ظهر رجلان أسمران فسلما عليهم من بعيد ثم اقتربا وطلبا من الركاب أن يتبعوهما إلى الجنوب الشرقي حيث يوجد حي بدوي، لكن حرارة الشمس التي بدأت تزداد جعلت الفرنسيين عاجزين عن السير فأفهموا بالإشارة الرجلين الموريتانيين أنه ليس بمقدورهم الحركة قبل المساء؛ أي عندما تكون الشمس في طور الغروب. اقترب الرجلان فأعطاهم الفرنسيون بعض الهدايا البسيطة كنوع من التقرب والسعي لطمأنتهما. في المساء ذهب أربعة من الركاب الثمانية مع الموريتانييْن، وفي صباح الثاني والعشرين عاد أحد الركاب بالحليب واللحم المشوي من عند أحد الأحياء البدوية. وبعد فترة وصلت قافلة من الجمال بقيادة أمير الترارزة (أحمد سالم ولد إبراهيم السالم)، الذي كان قد طلب منه حاكم المذرذره نموس أن يساعده في الحصول على هؤلاء الركاب التائهين. كان الأمير ولد إبراهيم السالم قد أرسل عيونه في كل اتجاه، واختار من الأدلاء خِرِّيتَهم، فتعرفوا على مكان سقوط الطائرة ومكان الحي البدوي القريب منه، فوصل الأمير إلى عين المكان واقتاد الجميع على ظهور الجمال إلى مدينة المذرذره حيث استقبلهم الحاكم الفرنسي نموس ومن ثم أوصلهم لمدينة اندر.
كافأ الفرنسيون الأمير ومن ساهم معه في إنقاذ حياة الفرنسيين الستة بثلاثة آلاف فرنك للأمير و500 فرنك لكل فرد ممن كانوا معه. ويبدو أن ما كافأ به الفرنسيون الأمير ومن معه لا يتناسب مع أهمية هؤلاء التائهين الذي أشرفوا على الهلاك، ولا يعكس درجة التغطية الإعلامية الواسعة التي باشرت من أول يوم تتبع خبر الرحلة، ولا يرقى إلى مستوى القلق العميق الذي أصاب الفرنسيين وخوفهم على الركاب الثمانية وجعل من مسألة تعطل غوليات وغياب أخبارها قضية رأي عام. فكان الأولى بالفرنسيين أن يدفعوا الملايين مقابل ما قام به الأمير وحاشيته.
بئر خروفة التي شغلت الصحافة الفرنسية
خروفة بئر لأهل بوفلان وهم قبيلة زاوية بمنطقة الترارزة ومن أسر العلم والفضل، وتقع خروفة إلى الشمال الغربي من مدينة المذرذرة. وقد برز اسم هذه البئر لما اختارها الفرنسيون سنة 1903 عند استعمارهم لبلادنا لتكون مركزا إداريا وعسكريا، واستصدر الوالي العام باندر (سينلوي) روم (Ernest Roume) قرارا يقضي بتحديد خروفة مركزا بغرب الترارزة يربط بين مركز سهوة الماء (الركيز) وبين مركز نواكشوط. فكانت خروفة تتوسط بين المركزين لذلك كانت محطة ربط للجنود الفرنسيين ومساعديهم عند سفرهم بين سهوة الماء وبين نواكشوط. يقول القاضي محمذن ولد محمد فال الديماني (امييْ علما) رحمه الله:
فِي عَامِ شَاكِسٍ عَلَى البِيظَانِ ۞ قَدْ طَلَعَ الكَافِرُ كَبُّلاَنِي
حَتَّى أتَى اخْرُوفَ بالنَّصَارَى ۞ ومَوْطِنٌ لَهُمْ هُنَاَك صَارَا
وَقَدْ بَنَوْا بِهَا دِيَارَ الطِّينِ ۞ يَخَافُهَا كُلُّ فَتًى فَطِينِ
ويعني عام شاكس: سنة 1321 بحساب الجمل أي 1903. ومن هنا بدأت الخرائط الفرنسية التي تم إعدادها منذ سنة 1903 تهتم ببئر خروفة، وأصبحت هذه البئر من بين النقاط الأساسية على الخرائط الفرنسية في تلك الفترة.
لم يلبث الفرنسيون في مركز خروفه سوى أربع سنوات، فقد كان هجوم المقاومة من الشمال، سواء مع الأمير أحمد سالم ولد اعلي “بيادة” قبل أن يقتل رحمه الله في إبريل 1905 أو مع أبناء محمد فال ولد سيدي: سيدي وأحمد ولد الديد رحمهما الله بعد ذلك، عامل ضغط على الفرنسيين، فقد كان ظهورهم وهم في خروفة مكشوفة للمهاجمين القادمين من الشمال. لذلك قررت الفرنسيون ترك مركز خروفة وهجره سنة 1907 وأسسوا مركزا في المذرذرة. يقول امييْ في نفس نظمه التاريخي الشهير:
وَعَامَ خَمْسٍ نَزَلَ النصارَى ۞ ذَاتَ التساقطِ وفيهِ سارَا
عن سهوةِ المَاءِ وعَنْ اخروفَه منْ ۞ كان لديهما فها هُمَا دِمنْ
ويقول الشاعر الشعبي الفائق البال التواجيني العلبي في زيارته الشهيرة ذاكرا خروفه:
واخروفَه معروفَه ۞ من فم ألا شوفَه
ماني لاهي نوفَ ۞ ما فاتو گاموالي
صالحين اخروفَه ۞ ياهل اخروفَه جو لي
انتهى.
الباحث سيدي أحمد ولد الأمير