حدثني العارف بالله العالم العامل احماده بن محمدو بن ابَا قال إنه سافر مرة في عهد الاستعمار صحبة ولي الله العبد الصالح أحمد سالم الملقب الشاه بن الشيخ أحمد ولد الفالي متوجهين من منطقة انيفرار إلى الدويره (دكانه حاليا) ولكل واحد منهما جمل مجهز جهازا كاملا. وفي الطريق صادفا “كوية” أي قافلة للنصارى محملة بالمواد الغذائية متجهة إلى مدينة بتلميت. وتحمل القافلة كذلك امرأة سماها من أهل كرمسين تشتهر بحسن دباغة الجلود.
قال احماده: كانت القافلة تعاني نقصا من الجمال فما كان من أفراد الأمن القائمين عليها إلا أن اغتصبوا منا جملينا وتركونا راجلين.
لجأنا إلى الترجمان المشهور بوبكر باه فأبرق إلى حاكم بتلميت أن ابحثوا عن جملين فداء لما تم اغتصابه مما هو خارج دائرتكم. ثم واصلنا الطريق مشيا على الأقدام في انتظار أن يأتي البديل المطلوب.
قال رفيقي كالمحدث لنفسه: لو داهمهم المطر فأفسد عليهم ما يحملون من زاد.
قلت بداهة: بل يحفظ الله المسلمين فاستشاظ رفيقي غضبا وكانت فيه حدة والحدة في خيار أمتي كما يقال: و الله ليأتين المطر فلا يذر لهم شيئا إلا وأفسده.
قلت: يمين منعقدة على حنث. وقلبت نظري في السماء فما رأيت بها من الأنواء إلا يسيرا خلته جنوب النهر بما لا يوحي بإمكانية سقوط المطر ليلتئذ .ثم واصلنا الطريق وقد هجرني الرفيق فلم يعد يكلمني. ولما أوشكت الشمس أن تغرب قطع صاحبي صمته فقال: أرى خلال الضباب الذي أمامنا غنما. تبينت فقلت نعم ثم إذا بجوار الغنم خيمة من الوبر فيممناها فإذا بها امرأة لنا معها سابق مودة وعهد. صاحت المرأة مرحبة وهي تقول: عسى بمجيئكم تعود إلي حمارتي الطائشة منذ بعض الوقت. قال احماده: دونك رفيقي فهو على كامل أهبة الاستعداد. صبع اعل الغرس.
ذبحت مضيفتنا شاة وأحضرت لنا من صنوف القرى ما نحن في أشد الحاجة إليه و ظهر القمر فأنار الآفاق و خضنا في حديث شيق فذهب عنا عناء السفر و لا زلنا في أهنإ حال حتى إذا ما نبهنا منبه أن داهمكم المطر فهرعنا إلى الخيمة نخفض أطرافها ونصلح من وضعية ركائزها ونحكم سدل الستار من حولها وأرسل الله المطر فكان غزيرا هادئا.
وتوقف المطر بعد حين فصحا الجو فخرجت مضيفتنا من الخيمة فإذا بها تصيح قائلة: ها قد أعاد الله إلي حمارتي فهي قابعة في مربضها المعتاد.
قال احماده: بتنا ليلة طيبة و واصلنا طريقنا في اليوم الموالي. فلما كان الزوال أخذ منا التعب كل مأخذ فتخيرنا شجرة اتخذنا لنا تحتها مكانا. تفيأنا ظلها وعلقنا وعاء سقائنا في فرع من فروع جذعها المستقيم ثم أسند رفيقي ظهره إلى الجذع وأخلد للنوم.
وبعد هنيهة لاح لي في الأفق لائح و لا زال يقترب حتى إذا اتضحت معالمه فإذا هو قافلة الأمس قافلة إذ ضلت طريقها. لم أصدق حتى إذا اقتربت فإذا بأصحابها يومئون إلي في إشارة واضحة للاستغاثة. فقد داهمهم المطر فانحرفوا عن وجهتهم الصحيحة و نفد ماؤهم وكادوا يهلكون من شدة العطش.
أتبعت نظري ركابهم فإذا بها قد رسم الله عليها لوحة ملونة عجيبة. فما هالني إلا ظهور الجمال ناصعة البياض و قد لبدتها رغوة الشاي ذات الخضرة الداكنة في حين تحول بعض الجمال من لونها الأحمر إلى بياض ناصع لكثافة ما تراكم فوقها من رغوة الصابون. أما أكياس سكر القالب ذات الأبهة المعهودة فقد بدت وكأنها دكت دكا حتى كادت أشكالها تصبح دائرية لا مستطيلة.
وقفت مشدوها أمام الموقف و وددت لو حققت رغبة الموكب في توفير الشراب لكن أعلم أن هنالك عقبة كأداء قد تمنعني من بلوغ ذلك الهدف. ذلك أن لا وصول إلى القربة إلا بإيقاظ رفيقي المستغرق حتى الآن في سبات عميق إذ يشتركان في فرع حساس من الجذع. وأعلم أنه لا يزال يحز في نفسه شيء مما عاملنا به الركب يوم أمس القريب.
المهم أنني خضت المغامرة فاستيقظ الرفيق على وقع ذلك المشهد الغريب فآقسم من جديد أن لا يكون لهؤلاء أي حظ من شرابنا ذلك.
ولكن الحل كان بسيطا فقريب من هنا لا تخطئ عينك الماء الراكد على وجه الأرض بفعل الأمطار النازلة تلك الليلة.
يقول احماده: ولا زلت أستغرب كيف أن هذه القافلة لم تصادف في طريقها صباح ذلك اليوم أي غدير مما اعترض طريقنا من تلك السيول.
أعاد إلينا المسؤولون عن القافلة جملينا ولكن بعد أن فقد أحدهما جهازه. ودعنا الركب و أكملنا مقيلنا حيث كان اللقاء.
العارف بالله العالم العامل احماده بن محمدو بن ابَا رحمه الله
ومازلنا في حيرة من نقص جهازنا حتى التحق بنا مسافر آخر فإذا به العبد الصالح أحمد بن حوبه التاكنيتي فأكمل لنا ما نقص لدينا من جهاز.
قال احماده: كانت تلك هي المرة الثانية التي ألقى فيها ذلك الرجل. أما المرة الأولى فهي في حينا في حدود انيفرار. كنت مع والدتي فاطم فال بنت أبن رحمها الله (وهي ولية كاملة مشهورة) في منزلنا فإذا برجل غريب قادم إلينا فألمحت إلي برفق بأن أخرج من الخيمة لاستقباله عند المدخل كما هي العادة في التقدير و الاعتبار. و مكث معها بعضا من الوقت حتى إذا أراد الانصراف فألمحت إلي من جديد بأن أرافقه حتى أودعه خارج الحي. ولما عدت إليها سألتها: من الطارق يا أماه؟ فقالت رحمها الله: “إنه ولي من أولياء الله الصالحين من قبيلة تاكنيت أعرفه منذ أربعين سنة و ما التقينا في الواقع قبل اليوم”.
قال احماده: حدثني ذلك العبد الصالح إبان لقائنا العابر يومذاك قصة غريبة. قال: كنت في نواحي بتلميت حيث أقيم في حي هنالك يكرمني رئيسه التقليدي إكراما إذ طالما آواني أهله وأحسنوا علي. وبينما أنا في منزلي ذات يوم ضحوة إذ أقبل علي ضيف لا أعرفه قادم من جهة خيمة رئيس الحي. قمت إليه فاستقبلته بحفاوة و ذبحت له شاة و اجتهدت في ضيافته. وبعد حين قال الضيف: هل عرفتموني؟ إنني رجل فاضلي من بني ديمان ولي لله اسمي المختار بن محمودن ثم حكى عن خلاف بينه وبين رئيس الحي المذكور أورد تفاصيله. اكتمل المقيل فذهبت معه أودعه و فوجئت به يقول لي بالحسانية: “ آن امغيري ما إردوه الرجاله”. لم أعر كثير اهتمام لما قال لأنني لم أفهم مغزاه. افترقنا فعدت قبيل غروب الشمس إلى الحي فإذا بأختي لم تعد بعد من البئر إذ كان الزحام فيه كبيرا في ذلك اليوم.
اتجهت مباشرة إلى البئر فساعدتها في السقاية وحملنا القرب على حمير و ركبنا و سرنا عائدين إلى الحي. وفي الطريق أخذتني إغفاءة خفيفة فرأيت فيما يرى النائم أن مجموعة من الذئاب تتعقب غنم رئيس الحي. فكأنما وقفت بين الفريقين و قلت للمعتدين: يا خلق الله كفوا أذاكم عن غنم خلق الله ففعلت. ثم انتبهت وواصلنا الطريق حيث وصلنا متأخرين إلى الحي فبادرت إلى أداء الصلاة ثم النافلة. و بينما أنا مستغرق في الصلاة إذ قدم إلي رئيس الحي فقال بنبرة الممتعض: ما راحت لنا جارة هذه الليلة فالتمس لنا الدعاء من أجل حفظ الغنم و كانت تنقسم إلى فئتين: إحداهما بيضاء والثانية سوداء.
عندئذ لجأت إلى رقية شرعية لاستجلاب المفقود تتألف من ركعتين يعقبهما دعاء. صليت الركعتين وما إن هممت بالدعاء حتى هتف بي هاتف من وراء الخيمة فقال: يا فلان، حصن نفسك وعيالك واخلد إلى النوم. فتعجبت ولكنني ما انثنيت عن الدعاء فشرعت فيه ثانية فعاد الهاتف ليقول: يا فلان احذر، حصن نفسك و عيالك ثم اخلد إلى النوم. فازددت عجبا ولكنني ما استسلمت بل رفعت أكف الضراعة إلى الله لأدعو من جديد. عندئذ هتف بي الهاتف للمرة الثالثة فسرد تفاصيل عن القطيعين وذكر أن الذئاب فتكت ببعضها في الموقع الفلاني و لم يبق منها إلا عدد كذا و أن ذلك كان حمية من الله لعبده الصالح المختار ولد محمودن.
قال أحمد بن حوبه كما روى عنه العلامة احماده بن ابَا: عندئذ فقط استرجعت عبارة ذلك الرجل إبان وداعنا و بينما أنا كذلك إذ قامت ضجة في الحي فهمت منها أن الخبر قد انتشر و ما لبثت أن جاءني رئيس الحي فبادرته بالقول: “يا فلان إن كان ما حل بالقطيعين حصل في المكان الفلاني أو كان بقي من الغنم العدد الفلاني فاعلم أن ما حدث كان نتيجة لتغييرك لخاطر ذلك الولي صباح هذا اليوم.
وكان الرجل جلدا قوي العارضة فنادى الرعاة و استفسرهم فأكدوا له صحة المكان و باشر عد ما بقي من الرؤوس فوجده على القدر الذي عينت فاستغرب و اعتذر.
هكذا سمعت أكثر من مرة عند شيخي العارف بالله احماده بن محمدو بن ابَا رضي الله عنه. رحم الله السلف وبارك في الخلف.
وجبة شهية أعدها الإداري أديب الشاعر … بدن ذكرتني مناسبات كثيرة جمعتني مع الشيخين احماد و الشاه كما ذكرتني الكثير من كراماتهما و كرامات فريد عصره المختار ولد محمودا فرحم الله الجميع و أطال بقاء الأستاذ بدن و جزاه خيرا حتى يخلد كل ما رواه بأمان و خبرة عن ذلك الجيل النادر ,,, آمين