الرئيسية / قراءات أدبية / كيف ينظر الطائي إلى شعره والمتنبي إلى نفسه؟

كيف ينظر الطائي إلى شعره والمتنبي إلى نفسه؟

أسهب باحثو الأدب القدماء منهم و المحدثون في المفاضلة بين أبي تمام حـبيب بن أوس الطائي، و أبي الطيب المتنبي الجعفي – و الجعفة محلة بالكوفة- و قد روي أن المتنبي من سعد العشيرة و الله أعلم. و قد نشرت مقالات، و عقدت ندوات، و نظمت محاضرات، و ألفت كتب؛ في المفاضلة و المقارنة بين الشاعرين. و كان و ما زال لكل أشياعه و أنصاره و جمهوره؛ الذي لا يبغي به بدلا تماما مثل الفرزدق و جرير .و لئن كان إعصار أبي الطيب قد ملأ الدنيا و شغل الناس عن صاعقة أبي تمام، فإن للطائي فضل السبق و لكل منهما ما يذكر به.
و قد لفت انتباهي – و أنا أطالع الديوانين في سياحة هذه العطلة الصيفية بين الدواوين-، أن أبا تمام كان مفتونا بشعره يطري قصائده و يرقصها و “يماريها “- كما نقول في الحسانية-، أما أبو الطيب فقد كان مفتونا بنفسه، تدور الدنيا حول جلالة شخصه الفائق و المتميز في كل فن و بالأخص في الشعر .
استمع إلى الطائي و هو يطري كلمته التي يمدح بها مالك بن طوق :

يا خاطبا مدحي إليه بجوده 
ولقد خطبت قليلة الخطاب
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
و الليل أسود رقعة الجلباب 
بكرا تورث في الحياة و تنثني 
في السلم و هي كثيرة الأسلاب
و يزيدها مر الليالي جدة
و تطاول الأيام حسن شباب

و أصخ إليه حين يقول في قصيدته الطويلة الفائقة التي يمدح بها يزيد بن مزيد الشيباني:

إذا سبب أمسى كهاما لدى امرئ
أجاب رجائي عندك السبب العضب
و سيارة في الأرض ليس بنازح 
على وخدها حزن سحيق و لا سهب
تذر ذرور الشمس في كل بلدة 
و تمضي جموحا ما يرد لها غرب
عذارى قواف كنت غير منازع 
أبا عذرها لا ظلم ذاك و لا غصب
إذا أنشدت في القوم ظلت كأنها 
مسرة كبر أو تداخلها عجب
مفصلة باللؤلؤ المنتقى لها
من الشعر إلا أنه اللؤلؤ الرطب

و اصغ إليه حين يخاطب الفارس أبادلف العجلي في قصيدته المشهورة التي يمدحه بها:

إليـك أرحنا عازب الشعر بعدما 
تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها 
من المجد فهي الآن غير غرائب
و لو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت 
حياضك منه في العصور الذواهب
و لكنه صوب العقول إذا انجلت 
سحائب منه أعقبت بسحائب

أما في مطولته التي يمدح فيها محمد بن عبد الملك الزيات فقد أبان عمَّا يرمي إليه في صميم المدح:

أما القوافي فقد حصنت عذرتها 
فما يصاب دم منها و لا سلب
منعت إلا من الأكفاء ناكحها 
و كان منك عليها العطف و الحدب 
و لو عضلت عن الأكفاء أيمها
و لم يكن لك في أطهارها أرب
كانت بنات نصيب حين ضن بها 
على الموالي ولم تحفل بها العرب 

و نصيب هو الشاعر الأموي المشهور و قصته متداولة في كتب الأدب . و يقول كعادته في ٱخر القصيدة:

خذها مغربة في الأرض ٱنسة 
بكل فهم غريب حين تغترب
من قافية فيها إذا اجتنيت 
من كل ما يجتنيه المدنف الوصب
الجد و الهزل في توشيع لحمتها 
و النبل و السخف و الأشجان و الطرب
لا يشتقى من جفير الكتب رونقها 
و لم تزل تستقي من بحرها الكتب
حسيبة في صميم المدح منصبها
إذ أكثر الشعر ملقى ما له حسب

و غير هذا في شعر الطائي كثير و هذا منهجٌ قد عبده،  و إنما ٱثرت البائيات ؛لأن أبا العلاء ذكر فيما ذكر في رسالة الغفران أن البائيات ستبكي حبيبا بكاء خاصا ؛ فأنت تراه مرةً يجعل قصيدته فتاة فاتنة، و مرة سيارة فارهة تجوب الأرض، و هو وإن كان قد سُبق إلى هذا، إلا أنه جوده و أستبد به ، و تارة يجعل قصائده بنات مدللات يسرن مغربات آنسات بكل فهم غريب ثيبات في صميم المدح، و هذا قريب مما نسميه في الحسانية ب: “اتْْحَجْلِيبْ أو اتْمَارِي”

أما أبو الطيب فلم يكن يماري و لا يشاري، فقد روي أنه قال أنا و أبو تمام حكيمان و الشاعر البحتري. وقد كان هذا الرجل مفتونا بنفسه ، فلابد أن يشرك نفسه في المديح؛ بل قد يبدأ بها و يحط لها “مِرْغَايَةً” لا بأس بها، بعد ذلك ينزل إلى ممدوحه و له في ذلك مذاهب قد نفصلها في مقام ٱخر إن شا ء الله.
استمع إليه في عز مدحه لسيف الدولة يقول:

أنا السابق الهادي إلى ما أقوله 
إذ القول قبل القائلين مقول
و ما في كلام. الناس مما يعيرني 
أصول و لا للقائلين أصول
ألام على ما يوجب الحب للفتى 
و أهدأ و الأفكار في تجول
سوي حسد الحساد داو فإنه 
إذا حل في قلب فليس يزول 
و لا تطمعن من حاسد في مودة
و إن كنت تبديها له و تنيل

أليس هو القائل:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي 
و أسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها 
و يسهر الخلق جراها و يختصم
و جاهل مده في جهله ضحكي 
حتى أتته يد فراسة و فم 
إذا رأيت نيوب الليث بارزة 
فلا تظنن أن الليث يبتسم

إلى ٱخر القصيدة التي يمكن أن تعتبر وثيقة استقالة شعرية من مهمة مدح سيف الدولة 
ألم يكن المتنبي هو القائل:

أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما 
بشعري أتاك المادحون مرددا 
ودع كل صوت غير صوتي فإنما
أنا الطائر المحكي و الآخر الصدى 

و المتنبي هو القائل:

فخبر حاسدي لديك أني 
كبابرق يحاول بي اللحاقا 

فأبو الطيب أسرع من الضوء و بذلك تدرك أن إدراكه. مستحيل و أن التحنث في محرابه و الأخذ بطريقته أمر يجف دونه ثرى التأمل و تقلق رحالته.

و بهذه الملاحظات السريعة ترى أن لكل شرعته و منهاجه و طريقته و قد علم كل أناس مشربهم ،و قد وجدت طريقة أبي تمام عند شيخنا الشيخ سيدي محمد ول الشيخ سيدي الكبير في رائيته الشهيرة حيث يقول:

خذوها من بنات الفكر بكرا
تغير الغانيات و لن تغارى 

و كذلك في المديحية الواوية
أما طريقة المتنبي فقد لمست منها عند ول ابنُ علما في مجمل قصائده و منه قوله:

تود اواهي أن تضعضعه و هل 
لريح الصبى أن تستخف يلملما

هذا و إني إنما أردت أن أشير إلى هذا الموضوع و أثيره؛ لعل أصحاب الخبرات العالية من أهل الاختصاص، و ذوي المعرفة من أهل الفن أن يتناولوه بشكل أعمق و أدق و الله من وراء القصد.

بقلم الأستاذ: محمدفال بن زياد 

اترك رد