الرئيسية / فيسبوكيات / رؤيا الشيخ يعقوب…

رؤيا الشيخ يعقوب…

رؤيا الشيخ يعقوب…

بدأت الشمس ترسل إيَّاتِهَا على ربى قرية “انْيِفْرَارْ”، فيظن المتأمل لها أنها ناصعة البياض، ثم لا يلبث أن يغير رأيه تمامًا، إذا أعاد النظر إليها قبل الغروب، حيث ستبدو لناظريْه وكأنها كميت مشوبة بحمرة، ودائما أتساءل في نفسي عن السبب في تغير ألوان تلك الكثبان؛ من البياض إلى الحمرة، تبعا لظاهرتيْ الشروق والغروب…

كان ثغاء الماعز المتقطع، وتجاوب النِّقاد معه، لا يعكرُ صفو جو الهدوء والسكينة الذين يخيمان على الحي أثناء ساعات الفجر الأولى ، وكذلك هو حال صوت محرك سيارة السيد “ابراهيم بن السالك” الذي بدأ يتباعد شيئا فشيئا، مخلفًا وراءه نقعاً؛ أثارتْه العجلات أثناء مرورها على أديم الغور.

قرية انيفرار

يقع منزل الشيخ يعقوب بن عبد اللطيف، على كثيب مرتفع في الجانب الشرقي من الحي، وقد لاحظ جيرانه تغيرًا بيِّنًا طرأ على برنامج الشيخ ذلك الصباح، فليس من عادته الكلام والاهتمام بشؤون الدنيا، لكنهم شاهدوه فجرًا يدخل الحظيرة، ويربط بداخلها كبشًا سمينًا، كما لاحظ المقربون منه أنه يُحضر لأمر هام قرر أن يباشره بنفسه و لم يكِلْهُ إليهم كعادته.

أرسل رسولاً إلى أحد رجال الحي، يطلب منه الإسراع في القدوم إليه، لكن الأخير تلكأ وتعمد التأخر في تنفيذ أمر الشيخ، وقد شبَّ – زوال نفس اليوم- حريق في “خيمته” كاد يودي بحياة ذويه، ولمَّا اعتذر له -بعد ذلك- عن تأخره عنه، أجابه قائلا: لو بادرت بالقدوم إلي، لما اشتعل مسكن والدتك.

أمر الشيخ يعقوب أحد معاونيه بذبح الكبش قبل شروق الشمس، كما أوعز إلى أهله بتجهيز البيت وتنظيفه وترتيبه، وإعداد طعام شهي مابين لحم ناضج وحنيذ وأرز لذيذ، وهريسة نفيسة، وشاي وشراب… وأخذ بيده اليمنى “مغراجه” الذي لا يفارقه، وارتدى ملابسه واعتجر بعمامة بيضاء، وابتعد عن أهله ليتفرغ لتأملاته وعباداته ومجاهداته.. أثناء خروجه من الحي التقى بالشاب الصالح عبداللطيف بن احمادَ، – كان صاحب حانوت للتجزئة آنذاك – فكلفه بتزويد أهل بيته بكل ما يحتاجونه من المؤونة…

الشيخ يعقوب بن عبد اللطيف رحمه الله

بدأت ساكنة الحي نشاطاتها الاعتيادية، كانت البئر آنذاك قائمة ، وحولها أمة من الناس يسقون، وقد تفيأت زمرة من الرجال ظل شجرةٍ، وطفقوا يتجاذبون أطراف الحديث، كان جو الخريف لا يزال سائدًا نهارًا ، رغم ندرة تخافق البروق ليلاً، وقد جلب بعض المنمين أبقارهم للرعي في حمى الحي، فخلاه مغذٍ لأنه يكثر فيه الثمام “أُمْ رُكْبَ” المفضل عند جنس البقر.

قدم الشيخ يعقوب – صباح ذلك اليوم – على البئر فاستبشرت به القيعان وهش له النجد، وبدأ يتفقد أحوال قطعان المنمين الغرباء، ويسألهم عن أخبار الرعي والسقي، وهم – مع انشغالهم- يجيبونه وينتهزون فرصة قدومه النادرة على البئر، لكي يحظوا بدعائه والتماس بركته، فالشيخ – رغم تواضعه وخموله – تشي الأنوار الساطعة في وجهه، بصلاحه وعلو كعبه في علوم القوم…

بدأت حرارة الشمس تشتد، وخفف منها هبوب نسيم عليل محمل بأريج خلا المراعي ، تزايدت الأصوات حول البئر مكونة “سيمفونية بيتهوفينية ” تجمع بين الخوار والثغاء والرغاء، ونداء الساقي على مُعاونه للرجوع بالسَّانية، ورنين البكرة، وخرير الذَّنُوبِ يُفرغ ماؤه في الحوض …

بئر انيفرار “الحاس”

كان الشيخ مهمومًا، ويرمى – بين الفينة والأخرى- ببصره في كل الاتجاهات ؛ كأنه ينتظر زائرًا، وفجأةً قطع – ترانيم السيمفونية – صوت أحد المنمين يصيح قائلا: لقد رأيت بين فجاج الكثبان جملاُ عليه أثقالٌ وغرابيبُ سودٌ تخفق، وخلفه سائق وشهيد، وأظن أنهم قادمون من جهة بئر “الْكِلِّ” ، هبَّ الشيخ واقفًا، وسار نحوهم مسرعاً، لاحظ الرجال اهتمامه الزائد بأولئك الزائرين؛ من خلال استبشاره بمقدمهم، وحرصه على استقبالهم بنفسه، فساروا خلفه يحثون الخطى، متحيرين وهم يضربون أخماسًا بأسداس، ولسان حالهم يقول إن لهذا الوفد لشأنًا ….

يتبع بإذن الله

—————————————————————————

انْيِفْرَارْ: بئر تقع وسط إكيدي على بعد 40 كم إلى الشمال عن المذرذرة تسكنها قبيلة إيدابهم أهل اعمر إيدقب .

اترك رد