الرئيسية / حبيب بن محفوظ / هل يشبه بداح حبيبا إلى هذا الحد ؟ ….. يعقوب بن عبد الله بن أبـُـــنْ

هل يشبه بداح حبيبا إلى هذا الحد ؟ ….. يعقوب بن عبد الله بن أبـُـــنْ

ما طالعت قصة ذلك المجلس الذى جمع الأمير أحمد بن المعتصم، والفيلسوف أبا يوسف الكندي، والشاعر أبا تمام إلا و تذكرت بداح بن محفوظ رحمه الله ، وكأن شيئا ما بداخلى ينبهنى إلى أوجه التشابه المتعددة بين حبيب بن أوس الطائى وحبيب بن محفوظ الإيكيدي، و إلى نقاط التلاقى الكثيرة فى مساري حياتهما. وما هممت بتسجيل بعض تلك النقاط، إلا وتذكرت أن بعض النقاد لا يثق فى البحوث المقارنَة، بل يزعمون أنها كثيرا ما تكون انتقائية ومحسومة النتائج مسبقا، وأن الأحكام المترتبة عنها تختلف باختلاف الباحثين والمبحوث عنهم.
لكننى قررت اليوم – بمناسبة ذكرى وفاة الراحل حبيب بن محفوظ- أن أكشف للمتصفحين الكرام عن جملة من الملاحظات الشكلية التى لا تغوص في العمق، ولا يظننَّ قارئ أننى قارنت بين الرجلين فتلك دراسة لا تتوفر لدي مقوماتها.

 

الملاحظة الأولى: نفس الإسم حبيب

يحمل الرجلان نفس الاسم حبيب كما أن لكل منهما لقبٌ قد تلقب أو لُقب به.

أبو تمام: هو حبيب بن أوس بن الحارث
وبداح : هو حبيب بن سيد بن محفوظ.

تلقب حبيب بن أوس باسم ابنه تمام على عادة العرب، ويبدو أن تماما هذا عاش بعد والده على الأرجح.
أما حبيب بن محفوظ فقد أسماه والده باسم الأمير التروزي احبيب بن أحمد سالم رحمه الله، و لقبته والدته باسم الشيخ بداح بن الشيخ أحمد الفاضل الأبهمى تيمنا وتبركا به، ومن المعروف أنه كان ربيبه فهو زوج جدته لأم المومنة بنت الحسن ، فتربى على يديه وكلأه برعايته وحبه.

الملاحظة الثانية: مهد النشأة

ولد أبو تمام، وشب فى قرية جاسم، وهي إحدى قرى حوران فى بلاد الشام تبعد عن دمشق إلى الجنوب 40 كيلومتر، و ذهب فيها مبكرا إلى الكُتاب ليتعلم القراءة والكتابة و يحفظ القرآن الكريم، ودائما نجد فى شعره ما يوحى بتعلقه بها وحنينه إليها فيقول مثلا:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى***ما الحب إلا للحبيـب الأول
كم منزل فى الأرض يألفه الفتى***وحنينه أبدا لأول مـــــــنزل 

ولد بداح وترعرع فى قرية انيفرار التى تعتبر واسطة إيكيدى ، و تتبع إداريا لمقاطعة المذرذرة. وتبعد عنها 40 كيلو متر إلى الشمال. وقد درس القرآن في كتاتيب توتو بنت حامتو، ومحمدفال بن محمذن انَّا رحمة الله عليهما ، كما دخل المدرسة النظامية صغيرا جدا ،حيث تلقى الدروس تحت الخيمة، وكان من بين مدرسيه الأوائل السيد عبد الفتاح بن دحمان، والأديب الراحل محمد بن باكا رحمة الله عليه.

ولقد أحب حبيب انيفرار وذكرها بالإسم أو معبرا عنها ب “احسي ميلود” عدة مرات فى عموده الشهير “موريتانيد”، ويرى البعض أن مقاله الشهير le petit village مستوحا من ذكرياته فيها .كما أحب أيضا طباع أهل “أيروار “عموما و طبع أهل انيفرار خصوصا، فقد كان دائما يروى لزملائه و أخلائه حكايات طريفة مفيدة تنم عن تعلقه بمهد النشأة.

الملاحظة الثالثة: الرحلة العلمية و الثقافة الموسوعية

ترك أبو تمام جاسم إلى مصر، حيث لبث فيها خمس سنوات؛ يتردد على جامع عمرو بن العاص، يروى نهمه من العلوم الدينية والأدبية؛ من خلال الاستماع إلى الدروس التى تقدم في المسجد ، ويروى هو عطش رواده من خلال بيعه للماء.

ويجدر التنبيه إلى أن الفترة التى كان فيها أبو تمام في مصر تزامنت مع قدوم الإمام الشافعي إليها (195 هجرية) و ابن هشام إمام اللغة في وقته و ابن الفرات صاحب مالك وغيرهم … ومن المؤكد تاريخيا، أن الإمامين الشافعى و ابن هشام اجتمعا في جامع عمرو وتناشدا الكثير من الأشعار، و لا أرى مانعا من شربهما من مياه أبى تمام و بالمقابل أن يكون هو نهل من معينهما الذى لا ينضب.

وقد مالت نفس أبى تمام بسرعة إلى الأدب العربى، فركز عليه وتخصص فيه، حتى أن ابن خلكان يؤكد أنه كان يحفظ 14000 أرجوزة عدا الدواوين والقصائد. وقد ذكر البحتري أن باكورة شعر أبى تمام، قيلت في مصر في مدح عياش بن لهيعة، وفيها يبدو اتجاهه إلى الصنعة واضحا خصوصا حين يقول:

بمختبل ساج من الطرف أحور *** ومقتبل صاف من الثغر أشنب 

فكل كلمة في الشطر الأول تقابلها نظيرتها ومثيلتها في الشطر الثانى.

أما بداح، فقد ترك انيفرار إلى المذرذرة، ليكمل دراسته الإبتدائية في مدرسة Folenfent، وهناك كتب قصيدته الشهيرة La nuit التى اعتمدها المعهد التربوي فى كتبه بعد ذلك؛ كما أكد لنا الأستاذ ول عمير ول ابي ، وقد تشبع بداح في حي “ملكاش” من ثقافة “المحصر” بعدما حصل على قسط وافر من “الديمين” ، و بدا جليا أن نفسه تميل نحو الأدب الفرنسي؛ فحفظ معجم لاروس عن ظهر قلب ، إضافة إلى الكثير من قصائد الشعر السريالى ومعلقات الشعر الفرنسي كأنشودة الخريف Chanson d’automne وغيرها…

ترك أبو تمام مصر إلى خراسان، طامحا في تأسيس سمعته ومجده في تلك الأنحاء المختلفة، و قد عكف في هذه الفترة على قراءة ما دون من الشعر العربي، وبعد مطالعته المتأنية الفاحصة للدوواين الشعرية ، طالع الناس بمختاراته الشهيرة ككتاب الحماسة، و كتاب الإختيارات من شعر القبائل، و كتاب الفحول.

ترك بداح المذرذرة إلى انواكشوط ، لمواصلة دراسته في إعدادية البنين، حيث كتب وجهات نظره على جدران أقسامها على طريقة Dazibao الصينية ، و أنشأ مع زملائه جريدة الأنباء المدرسية، ثم حصل على شهادة الباكالوريا في الثانوية الوطنبة، والمفارقة العجيبة أن موضوع امتحان مادة اللغة العربية آنذاك كان نصا شعريا لأبى تمام.

أولع بداح باقتناء ومطالعة سلسلة مغامرات San-Antonio حيث كان يصرف فيها منحته الدراسية، وهي مجموعة قصص بوليسية من إنتاج الكاتب الفرنسي Frédéric Dard، لكنه كان يوقعها باسم بطلها ضابط الشرطة الشهير، ومن المفارقات العجيبة أن هذا الكاتب توفي قبل بداح بعدة أشهر وكأنه أحس أن قارئه المفضل سيرحل، فقرر التوقف عن الكتابة، كما أوصى أيضا بأن يدفن في مقبرة قرية Saint-Chef الفرنسية التى أمضى فيها جزء من طفولته.

DARD FREDERIC 1992

كان بداح قارئا نهمًا ، فقد طالع أغلب محتويات مكتبة المركز الثقافى الفرنسي، فقرأ لأغلب الكتاب الفرنسيين من أمثال لافونتين La Fontaine و فولتير Voltaire وجان جاك روسّو Rousseau و لامرتين Lamartine وهيغو Hugo وبالزاك Balzac وفلوبير Flaubert وغيرهم… ، كما قرأ أمهات الأدب العربي المرصوصة في رفوف مكتبات المراكز الثقافية ، كالبيان والتبيين للجاحظ ، و أدب الكاتب لإبن قتيبة ، والكامل للمبرد و أمالى أبى علي القالى و غيرها…

أما عن شدة ولعه بالمطالعة، فيؤكد من عايشه أن الثلاثة التى كانت تجلى عن قلبه الحزن، هي القراءة والتدخين والشاي , ومن الطريف أنه كان يشترى الجرائد من باعة الوجبات السريعة بأسعار مغرية، حيث يبيعونه الورقة الواحدة بسعر الصاندويش فيترك لهم الخبز والمرق، ويذهب هو بالورق.

مرَّ أبو تمام مرور الكرام بالشام، و تنقل في الثغور و آذربجان ، إلى أن ألقى عصا التسيار في العراق، حيث بدأ أزهر أيامه و أخصبها و أذخرها بالإنتاج والحياة والشعر. فتلقفت الأندية الأدبية شعره و أذعن له الشعراء ،ومدح عظماء الدولة واتصل بمجالس الطرب ، ومن الغريب أنه كان يقدم ذوقه الفني فنجده يطرب من غناء مغنية فارسية، لا يفقه مما تقول شيئا:

أيا سهرى بليلة أبر شهر *** ذممت إلي نوما في سواها
ولم أفهم معانيها ولكن *** ورت كبدى ، فلم أجهل شجاها 

انتدب بداح كـأستاذ مساعد للغة الفرنسية، فعمل في مدينة لعيون مدة أربع سنوات، درس خلالها الأدب الفرنسي للقسم النهائي، كما عمل في أطار و انواذيب، ثم عاد إلى انواكشوط ليبدأ عصرا ذهبيا تفتقت فيه عبقريته عن روائع الموريتانيد. ويبدو أنه خصص مدة وجوده فى الحوض للخوض فى الموروث الشعبي لأرض البيظان، فتعلم الموسيقى الموريتانية بكافة مدارسها وشواهدها، وتاريخ القبائل. و قد انتقى – عن طريق حسه المرهف – من الفنانين الوطنيين سدأحمد ول عوَّ، والموسيقار المختار بن الميداح كما أحب موسيقى الفنان البريطانى مارك اكنوبيير Mark Knopfler .

الملاحظة الرابعة: التميز و الإبداع في الإنتاج

تميز شعر أبى تمام ،بجودة اللفظ وحسن المعانى، وكثرة استخدام التشبيهات، والجناس والألفاظ المتشابهة والغموض فى التعبير وكيف لا وهو رائد الصنعة و إمام الشعر فى عصره، وصاحب مذهب جديد يمزج فيه بين طلب اللفظ وطلب المعنى و له فيه استخراجات عجيبة ومعان غريبة تفرد بها بعبقريته، ولا أدل على ذلك من أنه أخمل جميع الشعراء في عصره وله أكثر من 150 بيتا سائرا .
أما نواحى ثقافة أبى تمام فيمكن التعرف عليها بسهولة بعد مطالعة ديوانه و أولها القرآن الكريم فقد تأثر به كثيرا، و يبدو أنه كان مطالعا لكتب التاريخ ،والمذاهب الفلسفية المتصلة بالدين والسياسة فى عهده ، كما كان ضليعا في علم النحو فلم يسجل عليه خطأ رغم كثرة حساده.
و المتتبع لديوان أبى تمام، يجده غنيا بسرد الأحداث التاريخية الهامة التى جرت في عصره كحرب بابك الخرمي واستشهاد القائد محمد بن حميد الطوسي واجتياح المأمون لأرض الروم و ووقعة أرشق و قتل الأفشين و فتح عمورية … فإذا قمت بمقارنة أبيات أبى تمام بروايات ابن الأثير واليعقوبي والطبرى وغيرهم، عن أحداث تلك الفترة ستجد أنه كان ينقل الوقائع التاريخية بدقة و أمانة نادرين.

ثقافة بداح الموسوعية جعلته ينتهج منهجا متميزا في الكتابة ،يقوم على الخلط بين عناصر النوع ، فمقالاته غنية بالمعلومات التاريخية واللطائف الأدبية والنكت الانتربولوجية والتضمينات المستوحاة من الموروث الشعبي … يصاغ كل هذا في قالب أدبي رصين صاحبه يمتلك ناصية لغة مولير، و سطوره تنضح بعبق التأثر بالثقافات المختلفة ،فتجد أحيانا في النص الواحد دعابة الفرنسيين، وتهكم بنى ديمان، وابركماتية الأنكلوساكونيين، وصراحة أهل المحصر، وحكمة الأفارقة….

تقول كاترين الشيخ* : (…..إذا كنا نحن القراء الفرنسيون نجد في ثنايا يراع حبيب نبرة مستوحاة من رابلي , فولتير أو سان انتونيو فإن هذا الأمر ليس مدعاة للعجب. وسيكون ظلما فادحا بحقه إذا افترضنا ولو للحظة أنه لم يتعهد قراءة هؤلاء الكتاب. ما أريده بهذا الصدد وبتواضع هو أن أفهم الجمهور الفرنسي أن هذا العقل الذي يبدو أكثر فرنسية ويلجأ غالبا إلى مرجعياتنا الثقافية أنه أيضا وبشكل جوهري عقل “بيظاني”.
بالتأكيد ليس هذا فكر جميع “البظان” إلا أن التوريات و الكنايات والمعاني المزدوجة تلقى استحسانا في أشعار”البظان” وفي الأدب العربي بصفة عامة. يمكن أن تفاجئك الجرأة والحرية عند حبيب, أما في موريتانيا فيقال “متمحصر” أي من “المحصر” حلة الأمير حيث يعبر أهلها عما في ضميرهم بكل حرية.)

جمعت “الموريتانيد” بين دفتي كتاب يتألف من 413 صفحة ، فروت لنا التطور السياسي في موريتانيا ما بين 1991 و 2001 ، كما عكست بجلاء ثقافة مجتمع البيضان، فصارت بمثابة دليل عملي لسوسيولوجيا المجتمع البدوى.

تقول الباحثة كاترين الشيخ* عنها:(….في سلسلة مقالات موريتانيد للجمل حضوره بالإضافة إلى أبطال أخرى ننازعه النجومية (رئيس الجمهورية, القبيلة, كوبني)…. الحضور الدائم لشخص, لحدث, لموضوع (اللحية, الجدار, الصحراء, 1212), وتضخيمه إلى حد العبثية هو أحد الأساليب المتبعة في “موريتانيد” لنقد الواقع سواء كان بنيويا أو مرحليا).

الملاحظة الخامسة: نحت العبارات

نحت أبو تمام عدة الفاظ في شعره منها قوله مبطرق البطريق ونجده يشير إلى ذلك صراحة في قوله:

علي نحت المعانى من معادنها***وما علي إذا لم تـفهم البقر 

أما بداح فقد نحت عبارات طريفة واستخدمها بعناية في مقالاته ، منها مثلا تحويله لاسم الرئيس الزائرى، موبوتو سيسكو Mobutu Sese Seko إبان الحرب الزائرية إلى خبر للتوقف عن إطلاق النار Mobutu cesse ses coups ، كما نحت عبارة Stayabilité تهكما على شعار حملة الرئيس الشهير التغيير في ظل الاستقرار ، هذا دون أن ننسى عبارة Toyotaya التى نحتها بداح بعدما وزع الرئيس آنذاك سيارات من نوع “تويوتا ” على الزعامات القبلية قبيل الإنتخبات الأولى…

الملاحظة السادسة: العلاقة بالخلفاء

رأى أبو تمام الخليفة المعتصم أول مرة في المصيصة، ثم حمل إليه في قصره بسر من رأى، كما أنشده قصائده بعد ذلك فى طريق العودة بعد فتح عمورية ، ويبدو أن المعتصم لم يكن متذوقا للشعر،بل كان منصرفا أكثر إلى الشأن العسكري وتوطيد دولته، لكن ذلك لم يمنعه من الإستماع إلى شعر أبى تمام وحتى فى بعض الأحيان إلى نقده عندما خاطبه مرة قائلا: الطائى أشبه بالبصريين منه بالشاميين .

أما بداح فقد التقى الخليفة معاوية أول مرة في حي BMD حين مر به يلعب مع أترابه، فناداه و أعطاه 20 أوقية ، ثم حضر بعد ذلك مؤتمرا صحفيا عقده الرئيس معاوية، وقاطع أحد الصحافة حبيب فى مداخلته فقال له الرئيس كلمته الشهيرة “هُوَ حَبِيبْ اشْكَالْ” ثم دعته الرئاسة لحضور حفل أقامته بعد الانتخابات الرئاسية التى أجريت سنة 1997.

و إن كان المعتصم أحب حبيبا الشاعر، وفضله على جميع شعراء بلاطه ، فإن معاوية لم يتحمل حبيبا الكاتب، ربما لأنه كان يستهدفه نظامه بنقده وتهكمه فقد صودرت جريدته القلم أكثر من مرة (سبعة أشهر من حذر الصدور، ومصادرة 28 عددا من الجريدة بطبعتيها) ، لكن المقربين من الخليفة معاوية، يزعمون أنه كان يحرص دائما على قراءة الموريتانيد وأن لديه طقوسا خاصة لذلك فى مكتبه بقصره الرمادي.
ومن طريف الموافقات بين الرجلين أنى وجدت أبا تمام يعرض برجل يدعى معاوية كان هو وزير بابك فيقول:

ولى معاوية عنهم وقد أخذت *** فيه القنا فأبى المقدار و الأمد
نجاك في الروع ما نجى سميك في *** صفين والخيل بالأبطال تنجرد 

الملاحظة السابعة: سرعة البديهة

أشرت فى بداية هذا المقال إلى رواية كتب الأدب والتاريخ لما دار فى ذلك المجلس الذى جمع أبا تمام بالأمير أحمد بن المعتصم والفيلسوف أبى يوسف الكندى، وقد أنشد فيه أبو تمام قصيدة له يمدح بها الأمير يقول فيها:

إقدام عمرو فى سماحة حاتم ***فى حلم أحنف فى ذكاء إياس 

فقاطعه الكندي قائلا: الأمير فوق من وصفت من أجلاف العرب، فأطرق أبو تمام قليلا ثم قال مرتجلا:

لا تنكروا ضربى له من دونه *** مثلا شرودا فى الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لــــنوره***مثلا من المشــــــــكاة والنبراس 

و عندما نظر الأمير إلى الصحيفة التى كانت بيد أبى تمام ، تأكد أن البيتين الأخيرين مرتجلان فولاه بريد الموصل. – وقيل ولاه الحسن بن وهب– لكن بعد خروج أبى تمام من المجلس، قال الكندي للأمير هذا الرجل لن يعيش فعقله ينقر من قلبه كما يأكل السيف المهند من غمده.

ولتأكيد سرعة بديهة بداح سننقل لكم ما ذكره لنا رفيق دربه الإعلامي ول عمير بن ابي حين قال: بينما نحن جلوس في صباح يوم صيفي – ونحن آنذاك نمارس التدريس التطبيقي المعهود قبل التخرج- إذ أخبرنا أحدهم أن طاقما من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة سيزور الإعدادية التى يتمرن فيها بداح، فلم يكترث للخبر وراح كعادته إلى قسمه من دون أي تحضير، وجاءه المفتشون الفرنسيون وجلسوا في الفصل من الخلف، فأخذ طبشورا وكتب نصا تحت عنوان Le petit village وصف فيه طلوع الشمس على قرية ريفية، وما يرافق ذلك الحدث من أنشطة أهلها المعتادة، فانبهرت المديرة ومرافقها من جودة النص وحسن سبكه وتعجبت من تمكن صاحبه من الثقافة الشعبية وامتلاكه لناصية لغة مولير. فهنأته وخرج الوفد راضيا، وقد قرر المعهد التربوي الوطني بعد ذلك، إدراج النص ضمن مناهجه في المرحلة الاعدادية.

كما أخبرنى أحد الأساتذة أنه جمعه معه منتصف التسعينات، ملتقى تكويني في اللغة الفرنسية، في إطار دعم قدرات أساتذة اللغة الفرنسية، وفي بعض الأيام  كتب المكون ثلاثين مفردة متفرقة وطلب من الحضور أن يجمعوها في نص، فتعجب الحاضرون من توظيف بداح لتلك العبارات في مقال نقدي لاذع لسياسات النظام ، وهو ما أدخل لجنة الملتقى في حرج شديد.

كما حدثنى الإعلامي محمدفال بن سيدميله -الذي عمل معه في جريدة القلم- أن مقال بداح هو الوحيد الذى يأتى لمن سيطبعه جميلا شكلا ومضمونا، خاليا من المحو و الإضافة، يقدحه الذهن قدحا فيسيل من اليراع إلى القرطاس ، فيضع فيه الهِناء مواضع النقب. وقد تعجب أصدقاؤه وزملاؤه  -الذين رافقوه كظله- من حفظه للقرآن الكريم في آخر عمره حيث أنهم لم بروه قط يدرسه، فلعله كان يستمع إليه في سيارته.

الملاحظة التاسعة: نفس العمر

ولد أبو تمام على الراجح سنة 188 هجرية وتوفي في جمادى الأولى سنة 231 هجرية أي أنه عاش 43 سنة هجرية.
وولد بداح يوم 10 سبتمبر 1960 وتوفي يوم 31 اكتوبر 2001 أي انه عاش 41 سنة تقريبا .
وإذا قمنا بحساب الفوارق الزمنية بين التأريخ الميلادى والهجري سنجد أن الرجلين عاشا نفس العمر تقريبا.

الملاحظة العاشرة: وفاء أهل جاسم وأهل انيفرار لهما

توفي أبو تمام فى مدينة الموصل حيث كان يعمل كاتبا فى البريد ودفن بها، وتوفي بداح فى باريس ودفن بمدينة انواكشوط حيث كان يعمل مديرا لجريدة القلم.

ووفاء لأبى تمام بالعهد قام سكان قرية جاسم بنصب تمثال له ،لا يزال شامخا على مدخل القرية القادم من دمشق.

تمثال أبو تمام في قرية جاسم

يقول صديقه الحسن بن وهب في رثائه :

فجع القريض بخاتم الشعراء *** وغدير روضتها حبيب الطائى
ماتا معا فتـــجاورا فى حفرة *** و كذاك كانا قــــبل في الأحياء

أما أهل انيفرار فقد استقبلوا جنازة بداح لدى باب الطائرة، وتولوا تجهيزه والصلاة عليه فى مسجد ابن عباس .ثم رافق القوم فقيدهم الغالى إلى مقبرة انواكشوط وألسنتهم تلهج بالدعاء لهذه العبقرية الفذة بالرحمة والمغفرة وحسن الخلف فى الأهل والولد وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الباحث : يعقوب بن عبد الله بن أبـــن

مصادر المقالة
– وفيات الأعيان لابن خلكان
– الموازنة للآمدى
– أخبار أبو تمام للصولى
– تاريخي دمشق وبغداد
– مقابلة هامة عبر الهاتف مع الإعلامي اللامع ول عمير ول ابي 20 اكتوبر 2014
– أتقدم بالشكر للكاتب محمد فال بن سيد ميله،  على المعلومات الهامة التى أمدنى بها,

* ترجمة لمقتطفات من مقال للباحثة كاترين الشيخ تحت عنوان : توغل موجز في موريتانيد

9 تعليقات

  1. اجدت، وأتقنت المقارنة،رغم انوف النقاد.بارك الله فيك.

  2. بباه بن امين

    روعة في التحليل وطرافة في المقاربة

  3. محمدن بن امد

    مقارنة أدبية رائعة كتبتها بإحكام بارك الله فيك

  4. احمرار على المقال

    أتقدم يالشكر الجزبل إلى الكاتب و الإعلامي محمدفال بن سيد ميله على ما يتحفنى به من الصفات التى تنطبق عليه أكثر منى وكما قال فالحديث عن عبقرية بداح ذو شجون
    ومما أطلعنى عليه اليوم الإعلامي اللامع ول عمير ول ابي – الذى كان هو مصدرى في ما كتبته- أن حبيب كان سريع البديهة وقد روى لى قصة غريبة قررت أن أجعلها احمرارا على النص
    قال ول عمير:

    بينما حبيب في قسمه في ثانوية التطبيق التى كانت تابعة لمدرسة تكوين الأساتذة إذ طلع عليه المفتشون الفرنسيون فجأة وبدون سابق إنذار فالتفت إلى السبورة و أخذ الطبشور وكتب نصه الشهير le petit village دون تحضير و لا تفكير .
    و لا يزال الباحثون الجامعيون يستنطقون هذا النص ويخرجون لنا من غوامضه ونكته ومخبآته في حين عجز عن ذلك الكتاب الذين عاصروا عهد كوكل والمكتبة الشاملة.

    و الغريب انه كان يحفظ الكثير من روائع الشعر العربي و قد ختم القرآن في آخر عمره ودائما يتسائل المقربون منه عن الوقت الذى يخصصه لحفظ كل تلك النصوص، خصوصا أنهم لا يفترقون إلا نادرا.
    ولعل الوحيد الذى اكتشف سر حفظ بداح هو الأديب الراحل جمال بن الحسن حين خاطبه يوما: لقد فهمت سر حفظك وهو أن الصفحة بمجرد النظر إليها تنطبع في ذاكرتك فتحفظها عن ظهر قلب.

    رحم الله بداح و جمال رجمة واسعة و أعود فأجدد تشكراتى للأستاذ ول عمير,

  5. محمد فال ولد سيدي ميله

    لم تزل عظيما يا ابن الأفاضل يعقوب.. لقد نفخت في ناي حزين وأسمعتنا رنات وتر بعثتْ من الأجداث ذلك الماضي الجميل: حين كان بداح يداعب أكؤس الشاي و”يُـصابعُ” سيجارته بهوس الفلاسفة.. شكرا لك على العهد النيفراري المصان.. سلمت أناملك وفاض يراعك حبرا به تسطـّـر كلمات خالدة عن أولئك الذين احترقوا لكي نرى الطريق.. بالفعل كان بداح أبا تمام وأمّ تمام معاً، بل كان أسرع بديهة، وأشهى كلاما، وأجلّ أفعالا، وأنقى روحا، وأنصع هنداما، وأسخى يدا.. “كان إذا يمشي ترافقه طواويس” (من سحائب الموهبة المرجحنات) “وتتبعه أيائل” (من الخلق الرفيع).. فلا عدمنا كتاباتك أخي يعقوب، فمنها كنا نستفيد وبها كنا نستنير، واليوم أصبحنا من خلالها نشتم ريحانة من عطر الحبيب الحِب بداح، نسافر على ظهر عيس موهبته الفذة، نتمشى في بساتين أدبه الخالد، ونسبح في جداول ذكراه العطرة.. فألف شكر من أهله وتلامذته وأصدقائه ومحبيه.

  6. لمرابط ول دياه

    مقارنة واردة وممتعة لا يبدو عليها التكلف

  7. لمرابط ول دياه

    مقارنة متأنية لا تخلومن طرافة أهل انيفرار وأدبهم وسبرهم أغوارالأدب والتألريخ شكرا أخي يعقوب

  8. مقارنة غير بديهية وفقت فيها اخى يعقوب رحم الله حبيب ول محفوظ وجزاه الله خبرا عن اهل انيفرار

  9. شكرًا على هذه النزهة الرائعة التي مكنتنا من اقتفاء أثر الحبيبين زمانا و مكاناً من خلال ما سطراه من روائع خالدة رغم قصر المدة التي عاشاها ولكن الأعمار تقاس بالعرض لا الطول.

اترك رد