أكرمَ زيدٌ عمرًا

تصف بعض النزعات الشعوبية العرب بأنهم قوم أهل عنف يعجبهم الظلم والعدوان ويكرهون السلم والاطمئنان وأكل رزق الأرض بهدوء وسكينة ورتابة.
قالوا: وهذا شيء اشربته عروقهم وكمن في أعصابهم بحيث أنه يطبع تصرفاتهم اللاإرادية ومشاعرهم الوجدانية، ويظهر في فلتات اللاشعور عندهم.

ويستدلون على ذلك بالمثال النحوي الشهير: ضرب زيد عمرا، قالوا: ولو لم تكن طبيعة القوم العنف وتمجيد العنف لما اختاروا هذا المثال العنيف، ولو كانوا من أركان السلام ودعاة الإخاء لقالوا:

أكرم زيد عمرا.. وساقوا أدلة غير ذلك من التاريخ وخلصوا من ذلك إلى نتيجة هي أخطر من ذلك وهي أن المزاج العربي لا يتماشى مع مفهوم الحضارة ووجدوا من نظريات ابن خلدون رحمه الله في مقدمته ما يجنح إلى هذا الطرح الغريب.

وبالرغم من أننا لا ننكر أن يكون قد وقع بعض ما ذهب إليه هؤلاء الشعوبيون، فإننا ندعي ونؤكد أن هذا الحكم غير سليم وغير صحيح وأنه مبني على فهم خاطئ لسلوك العربي ومزاجه يوم كان العربي عزيزا، يوم كان الإسلام هو الذي يقود العالم بالكتاب والركاب.

لقد كان المجتمع العربي الإسلامي إذ ذاك يكره كل ما من شأنه أن يربي في الجيل الناشئ فلسفة الخنوع والرضوخ للآخر مهما كلف الأمر.

كانوا ينفرون من ذلك أشد النفور حتى أنهم كانوا- وحتى بعد ظهور الإسلام- يسمون أبناءهم بأسماء السباع مثل الليث بن سعد عالم مصر وأسد بن الفرات فاتح صقلية، إيماء إلى ذلك المعني.

ولا غرابة – والحالة هذه – أن يساط الدرس النحوي بجرعة من هذه التربية الاسبرطية فيضرب زيد عمرا ضربا مبرحا ولو كان عمرو سيدا كريما محترما مع أن من الثابت تاريخيا أن زيد المذكور في النحو كان غلاما لأحد أئمة النحو شرد عني الآن اسمه، ولكن ذلك لا يعتبر شيئا مما ذكرنا.

وكراهية العرب للخنوع في القديم هو شيء مركوز في تركيبهم الفطري وقد زاد الإسلام هذا الشعور لأنه جاء لتحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ولكنه هذبه وضبطه بضوابط العدل والإنصاف والإحسان.

مع أني أخشى- والحق يقال- أن يكون هذا السلوك الفطري والشعور اللاإرادي قد بدأ يضمحل بعوامل الزمن ومعاول المحن فلم يعد الحديث هو عن ضرب زيد عمرا بل عن أفعال المطاوعة من نوعه:

كسرته فانكسر وهزمته فانهزم ودعوته فاندعي وهي أفعال التبعية بالامتياز ويمكن أن نطلق عليها- مع قليل من المسامحة- أفعال الاستعمار لأنها أفعال توذن بالقبول والانفعال دون أدنى مقاومة.

أخشى ذلك حقا، وأخشى أن يحل محل ذلك الشعور شعور آخر لا يقل خطورة عن شعور “المطاوعة” هو شعور حب المال الحب المطلق البالغ إلى درجة النيرفانا في الفلسفة الهندية. أنا لا أنكر أنه نعم المال الصالح للرجل الصالح، إلا أنني أرى أن ذلك ينبغي أن لا يكون على حساب قيم الشهامة، وأن لا يترتب عليه الركوع لغير الخالق.

أنا لا أنكر على الغني الغبي حقه في أن يأكل ما له بهدوء وأن لا يشرك فيه فقيرا ولا مسكينا، ولكني لا أقر له الحق في أن يحصل عليه بامتهان ذاته أو تلويث سمعته ولا أن يصرفه فيما لا تعود عقباه على أحد بخير.

إن ما يرمي به العرب من نزعة إلى العنف وميل إلى العلو في الأرض هو شيء لا أساس له من الصحة أيام إذ كان الناس ناسا والزمان زمانا وأحرى اليوم وقد دب إلى أكثرهم داء الوهن وغلبوا على أمرهم وحرصوا على الحياة فوهبت الموت مُولفًا بين أشتاتها.

ومما لابد من التنبيه عليه هنا أن ما نشاهده هنا وهناك من أعمال العنف الإرهابية هنا وهناك في الدول العربية والإسلامية لا علاقة له بتاتا بالقيم العربية والإسلامية المتعلقة برفض الظلم والاستعباد، تلك تقتل البريء وتهلك الحرث والنسل، وهذه تقيم صعر الجبابرة المستبدين، تلك تشين وهذه تزين، تلك تهدم وهذه تبني، فهل من مدكر؟

اترك رد