الرئيسية / فيسبوكيات / ذكريات مدرسة المذرذرة.. ححام

ذكريات مدرسة المذرذرة.. ححام

.. ححام.. هو الاسم الذي يطلق على العلامة أحمد سالم ولد بيباه، رحمة الله عليه.. كان ابنه صالح من أنبغ تلامذة فصلنا.. رغم صِغر سنه و ضآلة جسمه.. كان معلمنا يحتجز دفاتر التلاميذ..

 

الذين توصلوا للجواب الصحيح في مادة الحساب.. و يُجلسهم إلى جانبه لكي لا يستفيد المتخلفون في الحل من أجوبتهم الصحيحة..

 

وكان صالح دائما من هؤلاء الذين تُحتجز دفاترهم..كانت له تلك الضحكة الرنانة عندما يُخطئ أحد التلاميذ في الحل… كنا نتساءل عن سبب نبوغه في المادة .. وفسرنا ذلك بأن أخاه بِده هو الذي كان وراء مهارته في الحلول…
عندما كنا نذهب ليلا إلى منزل إخليفه لإحضار العصيد..{ العيش}.. أو إلى الحنفية لدحرجة برميل الماء.. نتوقف مع صالح أمام منزل ذويه.. فنركب معه هنيهة سيارة “تروترو” على تلك العتبة الكبيرة المُصاقبة لمنزلهم أو على مثيلتها المُصاقبة لمنزل أهل إبريهم..
و كنا نهرب إليهم من ذلك الشرس بيتايه الذي قذفنا مرة بعصَا غليظةٍ فأصابني بها في الرجل.. فدخلتُ منزل أهل بيباه و استقبلتني الوالدة بنت خالد.. و صدت عني ذلك الهجوم المباغت.. و لكنها شجعتني أيضا على التصدي للمهاجم..
كانت هنالك مناطق محظورة بالنسبة لنا.. منها منطقة نفوذ {بايني} التي تبدأ من شارع أهل آمغيرات مرورا بمنزل أهل أنمراي و أهل ديارا.. فقد كان بايني يسيطر على هذا الحيز الجغرافي في ما بين صلاة المغرب و صلاة العِشاء.. حتى يستفيد من موائد أحد هذه المنازل.. ما لم يسمع تلك العبارة المشؤومة التي تهيج غضبه..

 

وهي عبارة { بايني إفوجه} .. فتثور ثائرته .. و يقوم بمطاردة كل الأطفال الذي يراهم في الشارع.. كان مُخيفا بالنسبة لنا و كان عداء من الدرجة الأولى… لا يماثله في العدْو إلا { إميريه}.. التي تثيرها عبارة { إميريه لعبيه}.. فتعدو في أثر من قال تلك العبارة.. و لكنها لم تكن في خطورة بايني..
منطقة نفوذ إميريه هي منطقة كِراج بوجوره.. ذلك الميكانيكي الإجيجبي الذي اشتهر في المذرذره بخبرته في إصلاح السيارات.. أمضى فترة و هو يعمل سائقا لحاكم المقاطعة ثم تفرغ لإصلاح السيارات.. و كنا نجري وراء سيارته متعدد الألوان بين الأبيض و الأزرق..

 

ونردد ” وتت بجوره.. زينه ؤ مكِعوره”.. لم يكن ذلك يُغضبه.. تحول بجوره من أمام منزل أهل باب ساماكي ليستقر في الكِود .. و بعد فترة تحول إلى مدينة روصو.. فصار مرآبه عنوانا مشهورا في المدينة لا يوازيه فيها إلا حانوت ولد إميسه..
أهل باب ساماكي.. ذلك منزلٌ نُجله و نحترمه.. إنه منزل أم أصدقائنا أبناء عبد اللطيف.. المهندس عبدو و المرحوم شيخاني.. تعرفت على عبدو لأول مرة و هو يضع تلك القلنسوة السوداء على رأسه.. و كان فارق السن بيننا ضئيلا إذا ما قورن بالمستوى الدراسي.. كان يفوقني في البداية بسنتين..

 

ثم تقلص الفارق إلى سنة واحدة.. كان يرافق أخاه محمد الأمين.. النين.. الذي يتميز بالقفز على عجلة السيارة في ما يُعرف ب” كلبيت”.. هذه اللعبة الصباحية كانت ميدانا لتفوق بعض الأطفال من أمثال علي ديارا و كِد أيد و دلاهي و البشير دمبا كِالو..
كانت أم هذا الأخير الهاشمية بنت بلال إجولي طباخة الكفالة المدرسية التي يشرف عليها المرحوم المختار ولد إعليه.. مُراقب المدرسة.. التحق في ما بعدُ بالجيش أو الحرس … و استشهد في حرب الصحراء..
شهدت السنة الموالية حدثا هاما.. حيث حُول مدير المدرسة انكِايدي عباس و عُين مكانه شاب من مدينة بتلميت هو السيد محمد ولد بوهم.. كان قوي الشخصية جميل الخط.. بارعا في تدريس السنة السادسة.. قاسيا.. بما في الكلمة من معنى.. مع مجيئه.. تحولت الشوارع كلها إلى الحظر بالنسبة لنا في المساء.. كان يزجر من رأى منا بصوته الخشن.. مُردفا: ” إكِصر عمرك”.. .
أتذكر ذلك اليوم الذي دخل علينا قسم السنة الخامسة و نادى باسمي.. فارتعدت فرائصي.. قائلا: ” حاضر”.. ثم نادى باسم إمَين ولد حامد و إتاه ولد اليدالي و أحمد ولد إشدو…. فقال: “هؤلاء التلاميذ من السنة الخامسة سيتم ترشحيهم للمسابقة هذه السنة.. فعليهم أن يحضروا الدروس مع السنة السادسة…
وزع علينا كتاب” أوريول” و بعض الدفاتر.. و قال لنا.. إن حضور الدروس يبدأ من اليوم الموالي…
كنا نحاكي نبرته المتفاصحة عندما نتكلم الفرنسية.. و نقلد توقيعه الجميل عندما نكتب..  لقد ترك أثرا عميقا في سلوكنا..
التقيته بعد ذلك بعدة سنوات حيث جمعتنا المدرسة العليا للتعليم و كان في قسم المفتشين.. و كنت في السنة الرابعة من شعبة الآداب العصرية العربية.. فقال لي: ” لقد أصبتُ بترشيحك من السنة الخامسة..”
عُين محمد ولد بوهم مفتشا في مقاطعة روصو.. و بقي بها إلى حين تقاعده..
كنتُ في الحملة الرئاسية سنة 2009 قد كُلفت معه بتوزيع بعض التشجيعات المادية على مقار حملة المرشح أحمد ولد داداه.. و في بعض الأحيان أقوم بدفع تشجيع لبعض المناضلين الذين أعرفهم أكثر منه.. فيقول لي: ” يا فلان..حاول أن تتحاشى الغِش..”.. فأرد عليه: ” لقد تعلمتُ منكم عدم الغش منذ كنت تلميذكم في الابتدائية.”
و كم كنتُ مسرورا بنزاهته في تلك الحملة.. عندما اجتمعنا بإدارة الحملة و قدم هو تقريرا عن نشاطنا لمدة ثلاثة أيام و قال إنه ينقصنا مبلغ 700 ألف أوقية.. فدفعتْ لنا الإدارة ذلك المبلغ.. ففتح سيارته..و أخذ مبلغ 90 ألفا و قدمها للإدارة قائلا:”.. هذا المبلغ بقي لنا مما دفعتم لنا في السابق..”.. فرد عليه أحد أطر الحزب بأنه ينبغي أن نحتفظ بالمبلغ لوقود سياراتنا.. فقال له:” و هل توافق الإدارة على ذلك.. كل ما أعرفه أن هذا المبلغ ليس لي .. وأنا أرده إليكم…”
تزوج محمد ولد بوهم منذ سنته الأولى في المذرذره من كريمة السيد باب بن محمد لعبيد.. فصار مُرتبطا بالمدينة و أهلها أكثر من أي أحد من الموظفين الآخرين..
حدثٌ آخر هام هو خروج العملة الوطنية.. الأوقية.. فكان عيد الاستقلال سنة 1973 مُخلدا لدينا بذلك النشيد الرائق السهل من كلمات المرحوم العلامة المختار بن حامدن:

يا عملتي يا عملتي ~~ يا ذهبي يا فضتي
و يا شفاء علتي ~~ يا من تسمى الأوقية…
يا أوقية يا أوقية..

في هذا الظرف بدأنا نندهش من أداء الفنانة تكيبر بنت محمد ولد الميداح.. التي كانت إذ ذاك لها لمةٌ كلمة الشاب.. و كانت ثناياها ساقطة .. و هي في السنة الأولى من المدرسة الابتدائية..
كانت تقودنا في النشيد.. فنردد اللازمة بصوت جماعي.. و لكن بعض الزملاء كانوا يغشون في ذلك الترديد.. فيفتحون أفواههم دون أن ينطقوا بكلمة حتى يسمعوا أصوات الآخرين.. فيضحكون من خشونة أصوات بعضنا..

 

لقد كان أدائي رديئا.. بينما كان أداء لفطح من أحسن الأداء.. و لذلك .. أراه، و نحن في الصف لا يفارقني حتى يضحك من سوء أدائي.. مثله في ذلك لعمر ولد إباه ولد سيكِه والمرحوم إسماعيل ولد خباه .. كلهم كانوا يسخرون مني في النشيد إلا اداه صال.. فكنتُ أسخر من تأتـأته.. كان لا يبين في كلامه.. مع أنه متفوق في درس الإملاء الفرنسي.. قال لنا مُعلم العربية: ” إن اداه صال أرتُ.. كرروا هذه العبارة..”
الموسيقى في المذرذره، في تلك الفترة، لها قصة أخرى.. فأنت تسمع الموسيقى في بيتك .. عندما يُدرب المرحوم محمد ولد إعلي وركان كريمته كمبان.. في الظهيرة.. يكون طربك قد اكتمل.. من حيث الرقص و الغناء و الضرب و الفكاهة.. و عندما تتنافس محجوبه بنت الميداح و وانه بنت الببان في ترقيص بنتيهما تكيبر و صباح .. يكون المشهد الموسيقي قد اكتمل..

 

لم تكن هنالك مُكبرات صوتٍ.. و مع ذلك كنا نكتفي بالجلوس خارج حائط أهل أحمدو ولد الميداح أو أهل أحمد أو في الشارع أمام خيمة أهل إعلي لنستمتع بالموسيقى الأصيلة…
لم نكن نظن أن لزميلنا أحمد سالم ولد أحمد ولد الميداح نصيبا من هذا الفن.. حتى فاجأنا، بعد ذلك بسنوات، في إحى الليالي بضرب رائق على القيثارة و تقليد للفنان سدوم ولد أيده.. فعرفنا أنها شنشنة تُعرف من أخزم..
كل الأسر الموسيقية هنا لها سرٌ و خلفية في الأداء و الضرب و الأنغام الشجية..

 

كوكتيل غريب بين فناني الإمارة و شعراء إيكَيدي و جمهور الطبقة المتوسطة.. في فترة كاد يغيب فيها التصنيف الطبقي في البلاد..
كان أول من استقبلني عند وصولي مدرسة المذرذره المرحوم عبد الله ولد إموه.. رجلٌ ثلاثيني، ناصع البياض، أنيقٌ.. كان معلم أحد الأقسام التمهيدية.. درَسنا يوما واحدا في غياب معلم العربية… فكتب لنا على السبورة، بخط جميل غير مُشكل كلمة سُوق.. قرأ إبابه ولد كيك.. ثم السالمه بنت سيدي ولد آفلواط ثم محمودي ولد الزايد…

 

لم يُخطئ المعلم أحدهم و لم يُصوبه.. حتى ذهب إلى السبورة و كتب هذا البيت:

و لا تكن لسين سوق فاتحْ ~~ فدرهم الفاتح غير رابحْ

 

يتواصل..

 

 

سيدي محمد ولد متالي

نقلا عن موقع المذرذرة اليوم

تعليق واحد

  1. رحلة رائعة في سراديب الذاكره و شعاب التاريخ فرغم فارق السن بيني و بين الكاتب إلا أنني أدركت جل الأسماء و الأماكن المذكوره في النص.
    لتواصلو أستاذي الكريم شهادتكم على العصر الذهبي لمدينة المذرذره العريقه

اترك رد