الرئيسية / مؤلفات / تقديم الدكتور يحيى ولد البراء لكتاب “نبذة في معرفته صلي الله عليه وسلم لألسنة العرب” لمؤلفه الأستاذ يعقوب بن عبدالله

تقديم الدكتور يحيى ولد البراء لكتاب “نبذة في معرفته صلي الله عليه وسلم لألسنة العرب” لمؤلفه الأستاذ يعقوب بن عبدالله

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على خير مبعوث في العالمين، وبعد

فقد طالعت كتاب السيد يعقوب بن عبد الله بن أبُنْ في معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بلغات العرب ومخاطبتهم بها والذي أعطاه عنوانا: “نبذة في معرفته صلي الله عليه وسلم لألسنة العرب”، فإذا هو كتاب مفيد واف بالموضوع، دال على توفيق واضح في اختيار الموضوع، وعلى تمكن بيَّنٍ من لغة أكلة الشيح والقيصوم بأسلوب طلقٍ منساب يمتلك المشاعر ويستلب الحواس، وعلى قدرة واضحة على البحث المعمق في ثنايا الكتب لاستخراج بعض غير المتداول من أخباره صلى الله عليه وسلم، وشرح معاني المفردات العريقة في سجل لغة بني إسماعيل التي نطق بها صلى الله عليه وسلم فاكتست بذلك خلودا على مر الأجيال، وإن كادت لتندثر في مألوف الألفاظ المستعملة بين الناس.

ولا غرابة فيعقوب باحث نابه متيقظ الهمة آخذ من العلم بكلتا يديه، انتهض لشرح مكنون بعض أقوال أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم، الذي تنقاد له صعاب المعاني ذلل المراسن، وتأتيه الألفاظ الرائقة في سحرها وبيانها، المناسبة للغرض والمقام طائعة سهلة المقاد، ويفوح من كلامه الباسق كالنخلة السحوق، واصلُ الأريج وذكي النشر، وقام بإيضاح مستغلقه لقراء العربية ومتكلميها، بعد أن غمت عليهم معانيه وانبهمت كما غمت على كثيرين قبلهم حارت فيها عقولهم وعزهم فهمها وتفسيرها، فبدّى لهم مضمون كلامه صلى الله عليه وسلم واضحَ القسمات، بارز الدلالات والمقاصد، كاشفا للمبهمات، مجليا للمغازي والمرام كما جلى البدر المنير لاحب السبيل لخابط ليل ضل المنار وخانه الدليل.

ولئن اشتهر بين أهل العلم أن “من صنّف فقد جعل عقله على طبق يعرضه على الناس”، فقد رأينا كيف كان عقل المؤلف عند عرضه علينا راجحا حصيفا، مميزا للأهم الأرجح من العلم مطلوبية وتقديما، بصيرا بمواطن الإفادة، متمرسا بكيفية طرق أدائها، عارفا بمواقع الكلم عند تأليفه سبكا ودلالة.

فقد أفادنا بعض أخبار أولئك الصحابة من الأقيال ورؤساء القبائل غير المخذولين الذين حثوا السير كغيرهم من رجال قبائل العرب بعد أن انتصر الإسلام وضرب بجرانه، يسوقهم سائق السعادة والتوفيق لكي يسعدوا برؤية طلعته البهية، وبالانخراط في ديوان صحبته، وببيعته صلى الله عليه وسلم على الإسلام والأمان. فأخذوا طريق السفر من قاصية جزيرة العرب يلفظهم السهل إلى الجبل والجبل إلى السهل، ويصعد به الطلب ويصوب قد جهدهم الجوع وما ألان القناة ولا فل من شبا الهمة، قاصدين دار الهجرة وعاصمة الإسلام يتجشمون الهواجر ويخوضون الصحاري التي لا يمر فيها إلا الذئاب الغبس، ولا تسكنها إلا العين والآرام،  ولا تجول فيها إلا خوافق الريح من النكب الهوجاء.

كما أبدى لنا كيف كانت من البلاغة والحسن خُطب هؤلاء البلغاء المصاقيع من أرباب القول والحكمة الذين رضعوا اللغة سليقة وعفوا، وشابت منهم الذؤابة في إنشاء صنعة الكلام، وكيف لما جاؤوه صلى الله عليه وسلم استنفدوا طاقاتهم وتنافسوا في حسن البيان وسحر الإثارة، وكيف أذاعوا له مكنون النجوى ومصون الشكوى، ثم كيف كان رده صلى الله عليه وسلم عليهم رابيا متلقفا ما ألقوه من جميل القول وبليغه بالرغم من أنه من نفس القاموس الذي استعملوه، ومن معهود التعبير المتواضع عليه بينهم. ولكنه سر الاجتباء و بالغ الحكمة في القضاء, فتسقى الأرض بماء واحد ويأتي الزهر ألوانا.

ولاشك أن صرف الهمة إلى هذا النوع من الموضوعات لهو أفضل ما أرعفت فيه اليراعة لأنه أصل العلوم ونقطة اجتماعها وتآلفها، ولأنه يتعلق بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم أفصح من تكلم لغة القرآن حتى بلغ بالسائل العجب أن سأله، كما أخرج ابن منده ، وأبو نعيم ، وابن عساكر عن بريدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: “يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: “كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظتها”، وفي رواية: “فأتاني بها جبريل فحفظنيها”. وحتى قال له رفيقه في الغار وخليفته في أمته: يا رسول الله قد عاشرت العرب, وعاشرت الروم, وعاشرت الفرس فلم أر أفصح منك فمن علمك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”.

بل لم يكن صلى الله عليه وسلم عارفا بالعربية فقط، وإنما كان يعلم لغات الشعوب الأخرى، ولذلك فعندما جاءه وفد فارس وأحضر رجلا من اليهود ليترجم بينهم، لاحظ صلى الله عليه وسلم أن هذا اليهودي يلحن في قوله، ويغير مقاصد الكلام، فلفت نظره إلي ذلك وصحَّح خطأه للوفد.

وكان – فوق ذلك – عارفا بلغة الملائكة، والجنِّ ولغة الطير والحيوانات العجم. فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فكما جاء في مسند الإمام أحمد و سنن أبى داوود و مسند الطيالسى أنه بينما هو جالس مع أصحابه إذا بطائر جاء من السماء، ووضع منقاره عند إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “من فجع هذه بولدها؟ قال أحد الحاضرين: أنا يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: “ردوا ولدها إليها”.

ومثل هذا حديث الجمل الذي رواه ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه، وجاء فيه أن جملا قصده صلى الله عليه وسلم مسرعا حتى وقف عند رأسه ووضع فمه على أذنه، والرغاء ينزل على رقبته، وإذا بنفر يجرون خلفه ويقولون: يا رسول الله هذا جملنا. قال لهم: أعرف أنه جاء ليشتكي منكم فقالوا: مَاذا يقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: يقول إنكمْ رَبيْتُمُوه وهو صغيرٌ إلى أن كبر، ولما كبُرَ استسمنتموه وجعلتموه فَحْلا، فأخرَجَ لكم إبلاً كثيرَة، وكنتُم تَركبونه إلي مَواطِن الدِّفِء في الشتَاء وإلي أماكنِ الرخاوةِ في الصَّيف فلمَّا كبَر وهَزُلَ لحمُهُ  أردْتم ذَبحهُ، قالوا: لقد صدق فيما قال يا رسول الله. ثم قالوا لن نذبحه يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: لا، بَلْ أشتَريه مِنكم، فقالوا: بل نهبه لك يا رسول الله، قال: لا، لابدَّ مِنْ دفِعِ الثمن، فأعطاهم مائة دينار. فقالوا رضينا يا رسول الله. فأخذوا المائة دينار وتركوا الجمل. فقال صلى الله عليه وسلم للجمل: أنْتَ حُرٌ لِوَجِهِ الله تعالى، فرفع الجمل رأسه وأخذ يرغي وكأنه رجل يتكلم، والرسول يقول آمين ثلاث مرات. وبعد ذلك وضع فمه على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي يقبِّله ثم أخذ طريقه في الصحراء ومشى. فسألوه: ماذا قال يا رسول الله؟ ولمَ سمعناك تقول “آمين” ثلاث مرات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أرادَ أنْ يكافئني؛ فدعا لي بثلاث دعوات، في المرَّة الأولى قال سكَّن الله رعب أمتك يوم القيامة كما سكَّنت رعبي، فقلت: آمين؛ وفي المرَّة الثانية قال: “نصرك الله وأمتك علي عدوك وعدوهم”، فقلت: آمين؛ وفي المرَّة الثالثة – وكان الرسول بكى عندها – قال: “لا جعل الله بأسهم بينهم”، فقلت: آمين. قالوا ولم بكيت يا رسول الله؟ قال: لأن هذه الدعوات كنت سألت ربي فيهن، فأجابني في اثنتين، ولم يجبني في الثالثة”.

وأمثلة هذا كثيرة كقضية الغزالة أم الخشفين التي اصطادها الأعرابي وأوثقها شدا وفصلها عنهما وهما في أشد الحاجة إلى ضرعها، وكقضية وافد السباع الذي جاء يطلب حق تلك الكائنات في مال الله. ولاشك أن الدواعي متكاثرة للاسترسال في الكلام في هذا الموضوع، ولكن نكتفي بهذا القدر ونرجو أن يكون في طيه نشر، وفي البوح به فائدة وذخر.

كما نرجو من الله أن يجعل هذا العمل لصاحبه، وأن ينفعنا جميعا به وبذكر الأحاديث التي وردت فيه وبقراءتها وتفهمها، وأن يمن علينا برضاه وعافيته إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله.

 

يحيى ولد البراء

اترك رد