الرئيسية / فيسبوكيات / لمرابط محمذن فال ولد متالي والإمام محنض بابه: الثنائي الرباني لإحقاق الحق وإقامة العدل

لمرابط محمذن فال ولد متالي والإمام محنض بابه: الثنائي الرباني لإحقاق الحق وإقامة العدل

بقلم الأستاذ محمدن بن باب بن محمودن

قبل ما يربو على قرنين من الزمن بنيف وثلاثين سنة أنجبت المرأة الصالحة المنحدرة من بيت رفيع العماد كثير الرماد “جليت” بنت محمدن ابن حبيب ابن أحمد بن يحيى غلاما زكيا رزقه الله موهبة فذة ومحبة في قلوب الناس، وآتاه من لدنه علما فذاع صيته، وانتشر ذكره في الآفاق حتى جاوز حدود صحراء الملثمين، وقلعة الرباط التي منها انبثق نوره وتميزت فيها حضرته وحضوره، وانتفع بعلمه وطبه وفهمه خلق كثير، أظهر الحق وفتح الباب وكشف النقاب عن حقوق الخالق والخلق، ومهد السبيل إلى “سعادة المحيا والممات” بما فيه “صلاح الأولى والآخرة”، وهب هبوب المسك نسيم فضائله وأريج “شمائله”، وفاح شذاه ليستمد القطر كله منه غذاه…

وظل أثر قلمه المجلي في التصنيف والإفتاء والسجال “قرة عين النسوان” وقرة عين الرجال على مر العصور ومختلف الأجيال…

إنه لمرابط محمذن فال بن المختار الملقب “متالي” بن محمذن بن أحمد بن أعمر الممتد نسبه إلى الشريف محمد ابي بزول بن ابراهيم بن شمس الدين القلقمي، قطب قطره في الشاذلية وغزاليه العيلم، والطود الشامخ، ذو القدم الراسخة في العلوم، صاحب المقام العالي والمجد المنيف الغني عن التعريف، ابتهج بمولده الإقليم، وكان عليه مدار الانصاف والتحكيم.

وقبل مولد هذا القطب الرباني بحوالي عقدين من الزمن تقريبا أنجبت امرأة صالحة أخرى ــ وفي مكان غير بعيد ــ هي “تانيت” بنت المختار ولد الطالب أجود ابنها /محنض بابه بن المختار الملقب “اعبيد”، وظهرت عليه في الصغر علامات الذكاء والنبوغ، واستطاع بفهمه الثاقب وجده ومثابرته أن يجمع بين التدريس والتأليف والقضاء والفتوى، وعمارة الارض، ونهل من معينه طلبة كثر حتى جمعت مدرسته التي دامت سبعين سنة بين الرجل وابنه وحفيده…

شاءت الأقدار أن تكون هنالك قواسم مشتركة بين هاتين المرأتين الصالحتين (جليت، وتانيت) في السلوك والتربية والحرص على صلاح الولد واستقامته، وقدر الله لولد كل واحدة منهما أن يفقد أباه وهو صغير، ولا يعوض حنان الأبوة إلا قوة إرادة الأمهات من أمثال “جليت” و “تانيت”، فقد ظلتا وراء ابنيهما إعدادا وإمدادا حتى بلغا أشدهما واستخرجا كنزهما، ووراء كل عظيم امرأة…

تمر الأيام سريعا، ويتبوأ كل من الرجلين مقعده المناسب في قومه ويأخذ مكانته العلمية والاجتماعية لينسج التاريخ والبحث عن الحقيقة في أرقى صوره والمنهج العلمي القائم على العدل والأمانة والإنصاف، والسعي في مصالح المسلمين علاقة قوية بين الاثنين ذات بعد رباني صرف…

إنها العلاقة التي أردا لها معا أن تكون كلمة باقية في عقبيهما إلى يومنا هذا “ولله الحمد” رحم الله السلف وبارك في الخلف.

قد لا تكون بداية الاتصال بين الرجلين معروفة بشكل دقيق في المحفوظ من تاريخهما، إلا أن المصادر حفظت لنا مواقف ومراسلات ومساجلات في نوازل جمعتهما، تنم عن ثقة وإعجاب متبادلين وتعاون تام في إحقاق الحق والرجوع إليه مهما كلف الثمن…

ومن أهم تلك المواقف أن الأمير العادل محمد الحبيب ولد اعمر ولد المختار ولد الشرقي عرض على لمرابط محمذن فال أن يتولى القضاء حين أجمع معاصروه من العلماء الأجلاء على أهليته لذلك، فـأعرض لمرابط عن ذلك، وطلب منه أن يولي محنض بابه فرفض الأخير لكن لمرابط ولد متالي أصر على تقديم أهل الحل والعقد لمحنض بابه، وبعث إلي  محنض بابه مذكرا إياه برؤيا منامية رآها في صغره، وقصها على والدته، فاستكتمته إياها ولم يقصها بعد ذلك، وفيها أن الإمام عليا بن ابي طالب كرم الله وجهه أهداه عمامته، وفسر لمرابط بن متالي لمحنض بابه دلالة ذلك بأنها عمامة القضاء، وبتلك الاشارة المتالية قبل محنض بابه أن يتولى القضاء على عهد الأمير العادل محمد الحبيب.

ثم إنه من المتواتر أن الإمام محنض بابه كان يأخذ رأي خليله لمرابط ولد متالي في كثير من النوازل والقضايا الملمة، وحسبه أن يوافقه في الرأي.

يقول محنض بابه:

الحمد لله رب العالم العالي ***  على موافقة الحبر ابن متالي

فمن يوافقه مثل ابن متالي *** فلا يبالي بمن في الخلف من تال

والمعضلات إذا أتتك فأغد بها ***     إلى ابن بجدتها محمذن فال

حلال معضلها وضاح مشكلها***      جالي غياهبها فتاح أقفال

وبالمقابل نجد لمرابط ولد متالي يعبر عن إعجابه بالإمام محنض بابه، ويثنى على مصنفاته وتمسكه بالحق، ووقوفه إلى جانبه دائما لا يخشى في الله لومة لائم، حتى سماه “المحق” وقال بعد وفاة محنض بابه، إن ذلك هو لقبه بين أهل البرزخ…

يقول لمرابط محمذن فال من قصيدة له في تقريظ شرح محنض بابه المعروف بـ”الميسر” الذي وضعه على مختصر ابن إسحاق:

ليبلغ كل منطلق عـــــجـــــــول***دؤوب بالغـــــــــــــداة وبالأصيل

إلى اقطار كل العصر عــنـــــــي ***مغلغلة بذي صدع قـــــــــؤول    

حمدت الله ربي أن هـــــــــداني*** لدين الحق منهاج الرســـــول

 وقلدني جواهــــــــر خير حبـــر***حذامي القول عائشتي النقول

لئالئ بحر نادرة اللئالــــــــــــي *** وهاديها المدير إلى السبيـــل

ثقيب الفهم قطب رحا المعاني***فرات القطر شافية الغلـــــــــيل

وباب خزائن المعقول طـــــــــرا*** ومفتاح الكنوز من الأصــــــــول

ومن لم يأت باب البيت يحـرم ***من الغرض المؤمل بالــــــــدخول
 

 

ويدعو له قائلا:

أدام الله ذلك وارتعــــــــــــاه*** وبارك فيه في عمر طويل  

وأيده إله العرش كـــــــهفا ***سراج الدين قنعان السؤول

على عليا صراط مستقيم ***هـــــــــداية كل تياه ضلول
 

 

ومن ثناء لمرابط ولد متالي على الإمام محنض بابه القصيدة النونية المشهورة، وقد ظنها كثير من الرواة والباحثين رثاء بحكم مقدمتها لكنها ثناء على محنض بابه في حياته كما أخبرني والدي / أحمد ولد باب سنده في  ذلك فضيلة الشيخ اڮليڮم ولد محمدو ولد حبيب رحم الله الجميع، ويشهد لذلك البيت الخامس من القصيدة وما بعده، وأولها:

أمست معالم هذا الدين كالدمـــــــــــــن ***قـــــفرا على حين إدبار من الزمن

يهماء مطموسة غفلا شعائــــــــــــــــرها ***تثيــر للصب أدهى البث والشجن

قد سيمت الخسف حتى سامها سفـــها***ظلما وهضما أخو الإفلاس والإحن

وآذن الحال أن العلم منـــــــــــــــــــقبض***والله لا يــــــــخلف الميعاد واحزني

والحمد لله إذ أبقى لنا علمــــــــــــــــــــا***بباب دار من الــــــتحقيق في أمن

تبارك الله ما بالدار من كــــــــــــــــــــــرم***ومن نفيس رفيع الـــــــقدر والثمن
 

إلى أن يقول فيها:

فالله يـــــــــبقيه ما كان البقاء لـــه***خـــــــــــــــيرا وكب به الغاوين للذقن

مفتاح أغلاق أبواب الذي سطــــرت***أيــــــــــــــدي جهابذة النقاد والفطن

ندب يشمر عـن ساق إذا قـــــصرت***عـــــــن العلى همم الأغمار والعتن

من يحرم الأخذ من مكـــــنون لؤلؤه***لـــــــــــمفلس بين الخسران والغبن

يرسي قواعد فقه أوضحت سننــــا***قد بـــــــينت محكم المكي والمدني

ولا يحيد لما يــــــــدعو له عوجـــــا*** إلا عـــــــــــــــنيد أصم القلب والأذن

ولا ينبأ عن تبيانه خــــــــــــــــــــبر***إلا تــــــــــــــــلقاه ذو الإنصاف بالأذن

إن لم تر الشمس ظهرا مقلة قذيت*** فالشمس تظهر والخفاش ذو وهن
 

رجع محنض بابه إلى رأي لمرابط ولد متالي في عدة نوازل ومساجلات علمية دارت بينهما وذلك حين ظهر له أن الصواب ما يراه لمربط محمذن فال، فلم يكن التعصب أبدا والاعتزاز بالرأي ـ معاذ الله ـ من سمات الرجلين، وكما قال محنض بابه نفسه:

ليس من أخطأ الصواب بمخــــــــط***إن يــــــــؤب لا ولا عليه ملامه

حسنات الرجوع تذهب عـــــــنـــه***سيئات الــخطا وتنفي الملامه

إنما المخطـئ المسي من إذا ما*** وضــــح الحق لج يحمي كلامه

ولما قضى محنض بابه نحبه سنة 1277هــ أثرت وفاته ببالغ الحزن والأسى في نفس خليله لمرابط محمذن فال الذي عاش بعده حوالي عشر سين، فرثاه مرات، ورحل لزيارة ضريحه في “آمنيكير” يقول في رثائه ورثاء أمير اترارزه العادل محمد الحبيب حيث توفيا في شهر صفر من السنة نفسها:

فلله شهر عب بدءا ومختمـــــــا***عباب المـــشاكي والثقاف لمعتل

“محك نضار” الصيرفي و “بابه”***وروض العواصي للحبيب المؤمل

فأول ارباع من الثاني طرحـــه ***بــــــــــه يتجلى عمر “بض” مبجل

وللثالث اضمم رابعا مبدلا لــــه***بثاني حروف المعجم الرمز ينجلي

فلله كم من زائف عز ميـــــــزه***ومن مشكل بـــــعد الرضا لم يحلل

 

ويقول أيضا في رثاء محنض بابه من قصيدة كاملية مشهورة:

الكون هد بعرشــــــــه المـصعد***وحضيضه والشامخات الركــــــد

والعلم أجمع عطلت أســـــطاره***وطروسه من مطلق ومقيـــــــد

وتضعضعت سقف القواعد وقعا***وانـــــــــقض إيتاء الهداة الرشد

وبيان كل عويصة بأصولهـــــــــا***وفروعها بالــــــــمنطق المتمهد

فتعطلت سبل الدراية وارتمـت***بالحق امواج الضــــــــلال المزبد

من سد باب كان سدا حاجــــزا***روغان حافة كل باغ مـــــــــــعتد

بؤسى لإقليم تهدم قطــــــــبه***ومثار ما يجلو عمى المسترشـد

 

وهي قصيدة طويلة قيل إنه بلغ فيها مبلغا من التأثر حتى أسقط السماء على الأرض، ومن جميل ما قال في رثائه أيضا:

الحق مات وهلكه أشجــــى***من كل من بهلاكه يشجى

وشجى ذهاب ذويه ليس له***دفــــــع ولا من وقعه منجى

غصص تجرعها المحق على***قــــــسر وليس زوالها يرجى

والصبر إن لم تلف منفـــــعة***من غيره لذوي الحجا أحجى

وعموما فإن الحديث عن علاقة لمرابط محمذن فال ومحنض بابه، وصفحات التاريخ المشترك بينهما، حديث يطول ويحتاج منا إلى لقاءات أطول وندوات أكبر، إلا أن ثمة أمورا يتقاطع فيها الرجلان، رأيت من المناسب أن أشير لبعضها في هذا المقام:

أن كليهما فقد والده قبل ربيعه الرابع.

أن لأم كل واحد منهما دورا كبيرا في تربيته بمساعدة الأخوال، وكلاهما تفرس فيه اخواله الصلاح ولاحظوا عليه علامات النبوغ.

يشترك والداهما في لقب المختار، “فاعبيد” اسمه المختار، و”متالي” اسمه المختار.

تميزا بالذكاء المفرط وحدة الفهم وقوة الحفظ حتى قيل : “علم ابن متالي لدني” أي انه هبة من الله سبحانه وتعالى ، وقيل كذلك : “قراءة محنض بابه لا اب لها”، ولا يتعارض ذلك مع استفادتهما من الشيوخ والأخذ عنهم في البداية.

كلاهما جلس للتدريس والفتوى في سن مبكرة، ويكاد يجمع الثقات على أن لمرابط ولد متالي فتح الله عليه وألهمه العلم في ربيعه الثاني عشر.

 كتب سيرة كل واحد منهما أحد تلامذته الأقربين، فقد كتب عن لمرابط محمذن فال تلميذه وابن أخيه / حيمده ولد انجبنان، (الجنان العالية في السيرة المتالية)، في حين كتب عن الإمام محنض بابه تلميذه وابن خالته / ميلود بن المختار خي (عيون الاصابة في مناقب محنض بابه).

رحم الله الأخوين المتحابين في الله الخليلين لمرابط محمذن فال، والإمام محنض بابه، وبارك في ذريتهما وجمعنا معهم في عليين إلى جوار النبيئين والصديقين والشهداء، وصلى وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحابته البررة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

تعليق واحد

  1. يعقوب بن عبد الله

    أحسنت محمدن فهذه مقارنة عجيبة وفقتم لها .
    بأسلوب رصين و لا غرو

اترك رد