الرئيسية / قراءات أدبية / من كرامات جار رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ احماد بن ابا رحمه الله

من كرامات جار رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيخ احماد بن ابا رحمه الله

بدأت عرصات الحي تغيب عن ناظريه بعدما ابتعدت به السيارة عن بئر المساجد ، أجال بصره في الأودية والكثبان فلم تجل عن قلبه حزن الفراق ، فقد كانت السنة شهباء لا ماء فيها و لا مرعى ، راقب بقرات عجاف تمر بطيئة بجانب السيارة دون أن تنفر من صوت محركها..قطع تفكير السيد محمذفال سؤال غريب وجهه له رجل يجلس بجانبه يبدو من سلوكه أنه ليس من مضغ القتاد ، يسأل عن الطريق الذي ستسلكه السيارة وفي ما إذا كانت ستتوقف في المذرذرة أم أنها ستواصل السير نحو روصو؟

واصل محمذ فال تفكيره في الكلمات التي خاطبه بها شيخه احمادَ بن ابََّا البارحة عندما هم بالقيام عن مجلسه المهيب ، لقد وعتها أذناه ، و فكر فيها مليا قبل النوم، إذ أنه ليس من الباعة المتجولين كما أن الزبدة ليدست سلعة نافقة فهي تستخدم في الغالب في الغبوق ، وقد جاء ذكرها بعد الخبز لقلة الطلب عليها وذلك في قوله “امْبورُ بِيرْ” و ربيعة مضرعلى عكس الأوس والخزرج .
ألقى نظرة سريعة على الركاب فإذاهم يتحدثون عن ما غيرته عوامل التعرية من المعالم التى يعرفونها في أزمنة قد غبرت، لم يكترث كثيرا لما يقولون ، أسند ظهره إلى مسمارفولاذي و أغمض عينيه ، وراح يسترجع كلمات شيخه ويتمعن في فحواها ، لقد عوده في كل مرة على الدعاء له، فلماذا يمسك هذه المرة بيده ويقول له بصوت جهوري “الغَيبَ ذَ العَامْ لاهى اتعُودْ منْ بيرْ” سبحان الله تُرى ما ذا يريد الشيخ بهذا ، لكنه مقتنع تماما بأن ما يقوله جارالرسول بفيه ستراه عيناه لا محالة فهكذا عوده. 


أصبحت بالأمس لدى اندرا *** وقبل ذاك بمدردرا 
وقبل ذاك لدى أهلنا *** بحيث بالغاب استكف العرا
و آخر العهد بهم ضحوة *** عند وداعهم حديث جرى


وصل محمذفال إلى رفسك قبل غروب الشمس واتجه مباشرة إلى الحانوت حيث كان في استقباله شريكه و مستشاره، وبعدما أمضيا الليلة معا، أصبح وهو على اطلاع تام بحالة وحوالة السوق ،خصوصا أنه لم يكن على علم بموجة الكساد التى عمت بها البلوى بعد تبنى الحكومة السنغالية سياسة تقشفية لمواجهة عجز الموازنة.
أخذ محمذفال قرارا بترك الحانوت لشريكه، وبدأ العمل كبائع متجول ، كان سفسيرا ماهرا بقانون العرض والطلب ، كما أن ورعه وصدقه مكناه من الحصول على البضاعة بسعر تنافسي، باع صاحبنا واشترى وامتار واكترى على مدى خمسة أشهر ، لكن جهوده كلها باءت بالفشل فلم تشفع له خبرته ولا حنكته التجارية، بل إن صفقة المغبون كانت عنوانا لجميع الصفقات التى ّأبرمها منذ قدومه، فلم يربح افرنكا واحدا و تجاوزت ديونه السقف المعتاد عند زملائه من تجار التجزئة. 


و إن رمت وصلا فاجعليه مُجزأ ً*** فما ربح التجار إلا من السقط 


فكر مليا واستغرب من حاله، فلم يكن هذا دأبه ، فقد كان ميمون الطالع و يده كالإكسير لا يضعها على بضاعة إلا أصبحت ذهبا خالصا. وجد نفسه في موقف حرج لقد تضاعفت ديونه .. تذكر كلمات الشيخ وما ذكره بشأن الزبدة فقام مسرعا واكترى حافلة وشحنها بأكياس الزبدة وجعل وجهته مدينة كولخ لعلها تكون أروج هناك، خصوصا أن الزبناء كثر ولديه معارف وصداقات بتلك المدينة المباركة.. في الزوال أخبره السائق بحدوث عطل فني طارئ ، و مع مرور الوقت وتزايد درجة الحرارة بدأت الزبدة في الذوبان و ألزمه السائق دفع تكاليف تفريغ الحافلة وتنظيفها ، لقد ذابت أحلامه في المكسب كما ذابت الزبدة على مشارف مدينة كولخ…

…. رجع محمذفال إلى “رفسك” خالي الوفاض راضيا بالقضاء، و أخبر شريكه بكل ما جرى ، اندهش المستشار الكيس وهو يستمع باهتمام إلى تفاصيل الخسارات المتتالية التي تكبدها محمذفال.. حثه على التوقف فورا عن ممارسة بيع التجول وعلى إعادة جدولة ديونه، وذكره بأن اليسر في أموال الناس عسر، و أن أفعال العقلاء مصونة عن العبث، و أن ثقة الدائنين مرهونة بتسديد الديون في الآجال المحددة .
قضى صاحبنا ليلة نابغية كانطية، لم يذق فيها طعم الكرى، مسح الطاولة وشك في قواعد التجارة التي تعلمها منذ نعومة أظفاره، لكن اعتقاده في كلام شيخه لم يتغير قيد أنملة، وفي الصباح مرَّ على حوانيت أقربائه يتفقد أخبارهم كعادته ، فوجد عندهم طلبية عاجلة يجب استيرادها من داكار.

عاد في المساء إلى “رفسك” وبعد تدقيق سريع في البضائع والسلع التي جلبها، لاحظ زيادة كيس من الزبدة على الكمية التي سدد ثمنها ، رجع إلى الفاتورة فتأكد أن التاجر اللبناني أعطاه أربعة أكياس بدل الثلاثة التي طلبها. دفع له أحد تجار التجزئة ثمن الكيس الزائد فأخفاه في جيبه.

ارتخى التاجر اللبناني – ذى السبعين خريفا- على مقعده الوثير وسدد نظره في وجه محمذفال وبعدما تأمله للحظات ..خاطبه وهو يشعل غليونه قائلا : ما قلته يا سيدى غير دقيق من وجهين ، الأول أننا حريصون في التدقيق وقت تسليم البضائع إلى الزبناء ، والثاني أن التجار لم يتورعوا أبدا عن أموالنا، فلو سلمنا جدلا أننا سلمناكم كيسا زائدا فلن ترجعوه إلينا البتة .. قاطعه محمذفال قائلا جل من لا يخطئ ، والقياس مع عدم وجود القرينة فاسد، والله يقول إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا، وسلم إليه ثمن الكيس مصحوبا بالفاتورة..ألقى اللبناني نظرة سريعة على الفاتورة وطلب من محمذفال أن يعود إليه بعد الظهر لكي يتسنى له التأكد من الأمر.

اندهش محمذفال من الاستقبال الحار الذي واجهه به اللبناني ، خصوصا بعدما بالغ في الاعتذار إليه عمَّا بدر منه في الصباح ، وفجأة طلب منه أن يصحبه إلى مكتبه الخاص ليناقش معه موضوعا هاما. قام محمذفال ولسان حاله يقول سبحان مقلب الأحوال.
فتح اللبناني نافذة مكتبه الموجود فوق المتجر و أشار بيده إلى مخزن كبير يقع على الطريق المؤدية إلى ساحة الاستقلال، وقال لمحمذفال بصوت خافت هؤلاء شرذمة من الهواة يريدون منافستى في بيع وتوفير الزبدة، لقد وقعوا عقدا مع شركة دانماركية يخولهم تمثيلها في بعض دول غرب افريقيا ،وقد أفرغت أول شحنة في الثلاجات منذ أسبوع ، لذلك بدأوا بالفعل في ترويج وبيع زبدتهم بسعر أخفض من سعر السوق، و أريد أن ألقنهم درسا على يديك إن قبلت…
تنفس محمذفال الصعداء وهو يحاول فهم كلام اللبناني المركب بين الدارجة والفرنسية ، واصل التاجر حديثه سأبيع لك كيس الزبدة بنصف ثمنه، وستقوم بتسويقها مقابل نسبة محددة ، وفي غضون سبعة أشهر أريد أن أرى هذا المخزن مغلقا كما كان.

قام محمذفال بحملة دعائية قوية بين جميع تجار التجزئة في مدينة داكار وضواحيها أشلم ،رفسك كندل وكيص و، امبور و كولخ … و ذلك طبعا بفضل علاقاته الواسعة وسمعته الطيبة ، وهو ما مكنه من بيع كميات كبيرة من الزبدة في المدة المحددة، و خلال تلك الشهور تمكن من تسديد جميع ديونه ، وزاد من رأس مال الحانوت الذي يديره شريكه ، وبعد بيع آخر كيس من الزبدة اللبنانية صار لدى محمذفال من المال ما يكفيه مؤونة العيال فكر راجعا إلى انيفرار على متن سيارة رباعية الدفع.
وصلت السيارة إلى الحي بعد صلاة العصر ، ومع غروب الشمس لاحظ محمذفال وهو في طريقه إلى المسجد ، وجود جماعة “الوسط” عند أهل امين بن أكمتمين ، فذهب مسرعا للسلام عليهم ، ولما رآه الشيخ تهلل وجهه وبادره قائلا: امَّهَالْ لقد زدت على العام بستة أيام ولو راودك شك في ما قلته لكنت من المفلسين إلى يوم الدين.
مصدر الكرامة السيد الورع المحقق محمذفال بن عبد الله بن أحمد بن عمر أطال الله عمره انيفرار سنة 2012

3 تعليقات

  1. وخيرت حك حك

  2. وخيرت افدت جزاك الله خيرا ذاك حك

  3. معلق صديق لأهل انيفرار

    سمعت بعض الفقهاء يقولون إن تقنية إغراق السوق عن طريق تخفيض السعر لإفلاس المنافس تساوي في الحرمة تقنية الاحتكار.
    هل هذا صحيح. أفيدونا أفادكم الله.
    عدا عن هذا فالمقال أدب رفيع.

اترك رد