الرئيسية / قراءات أدبية / ولن تذبل ابتسامته الخالدة (محمد لمين بن محمودى جريدة القلم العدد 198 بتاريخ 12 نوفمبر 2001 )

ولن تذبل ابتسامته الخالدة (محمد لمين بن محمودى جريدة القلم العدد 198 بتاريخ 12 نوفمبر 2001 )

قبل التعددية وقبيل منح الصحافة حريتها “الضيقة” كنت أسمع عن شاب يدرس اللغة الفرنسية إسمه “حبيب بن محفوظ ” يكتب في إحدى المجلات زاوية تسمى “موريتانيد” و أذكر أننى كنت صغيرا عندما كان يحدثنى صديقى “المثقف” ثقافة فرنسية عن هذه الزاوية ويقول لى : إن الصحفي حبيب كان ينتقد بشيئ من السخرية ذوبان مشاهدى التلفزيون الموريتانى في ما تنتجه مصر من مسلسلات و أفلام، لم يفهم الموريتانيون أن الغرض من إنتاجها هو إظهار الشر على أنه الخاسر في النهاية.قبل التعددية وقبيل منح الصحافة حريتها “الضيقة” كنت أسمع عن شاب يدرس اللغة الفرنسية إسمه “حبيب بن محفوظ ” يكتب في إحدى المجلات زاوية تسمى “موريتانيد” و أذكر أننى كنت صغيرا عندما كان يحدثنى صديقى “المثقف” ثقافة فرنسية عن هذه الزاوية ويقول لى : إن الصحفي حبيب كان ينتقد بشيئ من السخرية ذوبان مشاهدى التلفزيون الموريتانى في ما تنتجه مصر من مسلسلات و أفلام، لم يفهم الموريتانيون أن الغرض من إنتاجها هو إظهار الشر على أنه الخاسر في النهاية و أن الهدف من هذه الأعمال الفنية ليس أن تغرم فتياتنا بحسين فهمى أو غيره و أن ليس الهدف منها أن تجيب الفتاة الموريتانية والدتها إذا سألتها بكلمة (ما أعرفش) الدارجة ، ويضيف صديقى بأن “موريتانيد” تقترح أن يزاوج التلفزيون بين هذه الأعمال وبعض الأعمال الموزمبيقية أو البرازيلية أو غيرها حتى تتعدد أسباب الإستلاب لعل ذلك يؤخر منه قليلا.
ثم قرأ لى بعض عبارات لم يفهمها وقال لي : لكي تفهم هذه الكلمات يجب أن تكون مع الكاتب حبيب في جميع محطات حياته، ذلك أن ما يكتبه له صلات كبيرة بكتاتيب “انيفرار” و “المحصر” وشيء من هذا القبيل.
سيرته:
في منزل زوج جدته الشيخ عبد الفتاح بن الشيخ أحمد الفاللى فى “انيفرار” ولد عبد الفتاح الصغير بداح عام 1960 أو” الـدَّارْ إِلِّ هِيَّ الدَّارْ” و ” دَارْ الإجتماع” حسب التاريخ المحلى لساكنى “انيفرار” بعد أن جلب له جده أكبر القابلات و أشهرهن (بنت وهب ، حبيب ، أم الفضل) .
حمل حبيب أول لوح له أو “رِفْدُ” في خيمة توتو بنت حامدت لينتقل بعد ذلك بين معلمى “عصر الوسط” المعروفين في كتاتيب المنطقة “سيد محمد بن النجيب ومحمد فال بن انا” ومن ثم إلى الشيخ محمذ باب بن داداه الذى درسه مبادئ الفقه واللغة (الأخضرى ، ابن عاشر ، السِّتُّ) كل ذلك حدث في سنينه الأولى وبينما كان أصدقاؤه من” الأنصار” يلعبون ” قَاشْ وسَامُورِى” كان بداح يميل إلى “رُونْدَ” أو الندوة الشعرية كما نسميها اليوم أو إلى ” الزرك” وهو أن يطرح الشيخ بعض الأسئلة على الصبي فإذا أجاب ذكره ذكرا طيبا أمام الكبار ، و إذا خسر يقول أمامهم إنه “طَاحْ” الشيئ الذى لا يستسيغه الأطفال عادة.
وهكذا بدأت عبقرية الصبي تتفتق وتتحدد ملامحه: ذكي نبيه وبحكم أنه من أسرة الشيخ عبد الفتاح نشأ مدللا لكن ذلك يقتضى أيضا أن يكون على اطلاع بكل شيئ ، ففى حلقات الكبار عند أهل الشيخ كان رأس الصغير بداح حاضرا وعيناه تبرقان كأنما تصوران كل المشاهد وفي سنة 1966 أو “دار لغراد” أخذه الشيخ عبد الفتاح المترجم المعروف إلى مدرسة انيفرار المكونة من فصل واحد وهو فصل يستقبل كل ثلاث سنوات دفعة غير كبيرة حتى إذا وصلت السنة الرابعة على نفس المقاعد خرجت تلك الدفعة إلى المذرذرة حيث بقية الفصول الإبتدائية.
جلس بداح على المقاعد وبدأ تعليمه الفرنسي على يد عبد الفتاح بن دحمان و ول الب الذى يؤرخ الأهالى بمقدمه سنة 1968 (امج ول الب) وهي نفس السنة التى توفيت فيها جدة حبيب المومنة بنت الحسن زوجة عبد الفتاح الكبير.
في سنواته الأولى با نيفرار كان حبيب يحفظ صفحات من القاموس ليلا حتى إذا كان الصباح ازدهى أمام أقرانه بذلك وتحداهم أن يحفظوا ما حفظه وتمضى أيامه هكذا حتى إذا حفظوا من عنده أحضر درسا جديدا والهدف هو التميز الذى كان يصعب خلقه على فتى يمضى يومه نائما في حجرة الدرس والسبب أن حبيب كان الأصغر في دفعته وبالتالى لا يصبر كثيرا.
وتحكى بعض الروايات أنه جاء إلى جده عبد الفتاح باكيا ذات يوم بعد أن سقط في امتحان اللغة الفرنسية فقال له : على الله ان لا تكون مشكلتك بعد اليوم. وعام “دار النفخ” أي سنة 1969 انتقل حبيب ودفعته إلى المذرذرة لمواصلة المشوار الدراسي ففى مدرسة “افولانفاه” وفي المنازل الغربية من “ملكاش” عاش ثلاث سنوات مع أسرته التى نزحت بدورها إلى “الصنك” منذ عام الجفاف أو عام “بطمبطاي” ضمن أسر كثيرة نزح بعضها إلى “بطمبطاي” والبعض الآخر إلى المذرذرة، وفي تلك الفترة كتب أول قطعة شعرية بالفرنسية يبدي فيها حنينه إلى انيفرار ويقارن فيها بين اليوم والأمس.
بعد حصوله على شهادة ختم الدروس الإبتدائية سنة 1972 انتقلت الأسرة إلى العاصمة انواكشوط حيث أمضى ست سنوات في المرحلتين الإعدادية والثانوية ، وحصل على الباكالوريا بتقدير جيد سنة 1979 ومن ثم شارك في امتحان الأساتذة ليتخرج بعد سنتين أستاذا مساعدا في مادة الأدب الفرنسى.
كانت محطته الأولى لعيون و مكث فيها حتى سنة 1986 لينتقل إلى أطار لمدة سنة واحدة ليستقر فى انواذيب حتى سنة 1990 حيث نقل إلى انواكشوط ليلتحق بالعمل الصحفي.
وبعد مضايقات من السلطة لإسكات قلمه اضطر حبيب إلى أن يترك و إلى الأبد السبورة و الطبشور ويبدأ مرحلة أيامها قليلة وحصادها كثير، أخذ حبيب مبادئ اللغة الفرنسية على كبار معلميها آنذاك وهم عبد الفتاح بن دحمان، يحظيه بن ابا، محمد بن باكا، محمدن بن الب، ادياكانا عبد الله، الحسن بن الطالب، عبد الله بن بلل. وحسب من التقينا من هؤلاء فإن ذلك الولد الأبيض النحيف كان شحنة من الذكاء المتوقد والخيال الجامح و إن كان في كل درس يبدو شاردا في صحاته و إذا نام فلا موقظ له إلا الجرس.
تزوج حبيب بن محفوظ سنة 1994 من تغل بنت اعبيدالل وهو أب لثلاث بنات و (قلم).
المدير الإنسان:
قدر لى أن أعمل معه في جريدة القلم العربية مدة غير محدودة نظرا لطابع الفوضوية الذى كان يطبعنى مرة أعمل معه مدة سنة ، ثم أذهب و أعود لأعمل معه شهرا واحدا و أذهب فكانت القلم أما قبلتنى دائما و أبدا ..هكذا كانت القلم بالنسبة لى، أما صاحبها فربما كان هو السبب فى تلك الألفة الكائنة بينى وهذه الصحيفة. ومع أنه كان مديرى فقد عاملنى على أنه الأخ الأكبر و أحسست أنا بذلك الحنان الذى منحنى إياه والذى منعه لى الكثيرون من أقرب أقاربى وبدأت أهتم بدقائقه و أعيشه على حقيقته.
كان الطابور يمتد كل يوم من باب مكتبه إلى الشارع المقابل لمقر الجريدة والطابور هنا ليس طابور قراء ومثقفين إنما كان طابورا للفقراء المعدومين إلا من حبيب يخرج إليهم ولا يدخل إلى مكتبه إلا وقد صفر وفاضه ولم يبق أوقية حتى ثمن علبة السجائر الصديقة العدوة. هؤلاء وهم كثر ومن جميع الفئات أيقنوا أن المصدر المضمون بالنسبة لهم هو ما في جيب حبيب مدير القلم ولو كنت رساما لرسمت لكم لوحة لهم فهي في عينى باقية: العجوز صاحب العصا والرجل الملثم والشاب الذى تلد زوجه كل ثلاثة أيام وغيرهم ، وفي الصورة من الأمام العامل الطيب عالى صو وهو يحاول عبثا تنظيم الصف وترتيبه حسب الحاجة.
و إذا ما خرج من الجريدة بعد أن حل المشاكل الشخصية لجميع العمال عاد إلى البيت لدقائق قليلة وهناك لن يستقر كثيرا لأن أسرا أخرى لا تعرف من عائل إلا هوفى انظاره. وفي المساء يعود إلى القلم لتبدأ أنامله في تسطير ترانيمه الخالدة موريتانيد التى من أحب معانيها السهر الشاي والدخان.
باختصار شديد هذا هو البرنامج اليومي لحبيب والذى يقطعه عادة مطالعة مجلة فرنسية أو كتاب عربي عتيق مثل العقد الفريد أو إحياء علوم االدين للغزالي و الذى لا تزال مجلداته مصفوفة على مكتبه.
وعلى المستوى العملي أعطى الرجل حرية تامة واستقلالية لجميع محرريه يكتب كل منهم ما يشاء دون رقابة اللهم تلك الضرورية التى تقوم بها رئيسة تحرير الطبعة الفرنسية هند بنت عينين أو رئيس الطبعة العربية رياض بن أحمد الهادى.
قرر حبيب رغم المصادرات الكثيرة والمتتالية والتحريمات التى طالت القلم أكثر من مرة (سبعة أشهر من حذر الصدور، ومصادرة 28 عددا من الجريدة بطبعتيها) أن لا يستسلم للنظام أو يلقى سلاحه الذى سخره للحرية والعدالة حتى صارت القلم (الجريدة الأكثر حظرا ومصادرة في موريتانيا) فالجريدة بالنسبة له ليست مؤسسة تجارية يجب حلها إذا لم تحقق الأرباح المرجوة منها، فالقلم بالنسبة له كانت إبنه الوحيد الذى يجب أن لا يموت مهما استفحل داؤه.
و أثناء لقاء الصحفيين بالرئيس ول الطايع عام 1998 كان حبيب حاضرا ومتواضعا ولم يكثر من الكلام ولم يزد على القول بأن المرحلة التى تمر به البلاد تقتضى الترخيص لإذاعة حرة في محاولة منه لخلق إعلام تصعب فيه مصادرته.

[| [(

ياراحلا وبحار الدمـــــــــع تلتطم *** ويا حبيبا بكاه الـــــــــلوح والقــــلم
كيف استطعنا جمــــــيعا أن نودعه *** ولم نمت ونظام الكون منــــتـــظم
ويا مثالا لآيات الســــــــــــماح إذا *** ما غاب عنا فما غابت له شــــــيم
تشتت الشمل من بعــــــــــــده ولنا *** شمل من الهم والأحزان ملــــــتئم
قد كنت نورا لأرباب الرؤى زمنا*** واليوم تلك الرؤى من بعدكم ظــــلم
فلا غرابة عند الوالهـــــــــين إذا*** نار الأسى في الحشا لم تال تضطرم
)] |]

محمد لمين بن محمودى
جريدة القلم
العدد 198 بتاريخ 12 نوفمبر 2001

تعليق واحد

  1. رحم الله بداح برحمته الواسعة
    جزاكم الله خيرا على نشر هذه المقالة

اترك رد