الرئيسية / قراءات أدبية / رسالة الفيـــــــــــــــــش (الجزء الثاني)

رسالة الفيـــــــــــــــــش (الجزء الثاني)

قال أهل العيش: تفضيل العامة للحم على اللبن لا عبرة به فهو من أخطاء العامة وإنما الأفضل الأفضل عند الله والحسن ما حسنه الشرع وكون اللحم هو الذي يكون به القرى إنما هي عادة جاهلية مذمومة شرعا وقد قال صلى الله عليه وسلم من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا وقد كان عمل الأشراف في أقطار المعمورة قال أهل العيش:
تفضيل العامة للحم على اللبن لا عبرة به فهو من أخطاء العامة وإنما الأفضل الأفضل عند الله والحسن ما حسنه الشرع وكون اللحم هو الذي يكون به القرى إنما هي عادة جاهلية مذمومة شرعا وقد قال صلى الله عليه وسلم مَن تَعَزّى بعزاء الجاهلية فأعِضّوه ولا تَكْنُوا وقد كان عمل الأشراف في أقطار المعمورة أن يكون القرى باللبن واللحم كرما منهم فظن الجهلاء أن اللحم هو القرى أصالة والحق أنه زيادة على اللبن مع أنه من العرب من يقري ضيوفه اللبن ثم ألا ترون أن شاة أم معبد كانت المعجزة فيها في الحلب ولو كان اللحم أفضل لذبحت وكانت المعجزة في أن تكون سمينة. وأما ما ذكرتم من مزايا الكسكس وكون صاحبه لا يصاب بالمحور فهو شيء غير مسلم لأنهم صححوا في محور الأول الذي أبكاه في المسجد وهو أشد المحورات صححوا أنه أصابه على أثر كسكس غير تام النضج مع أن محور العيش لا يدوم طويلا وتعقبه راحة تنسي فيه.
[| [( فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا۞فأفعاله اللاتي سررن ألــــــــوف )] |] ثم هو دليل على اعتدال المزاج كما نص عليه الأطباء. وأما كون من تعشى منه “يتدشى” إذا نام فهذا غير خاص بالعيش والرواية الصحيحة المتداولة عند الناس لهذا البيت:
[| [( وكل من نام وقد تعشى۞وما تمشى هبه قد تدشى )] |]

وأما كون الكسكس يزيد في الذكاء فهو صحيح إلا أن العيش لا يورث البله كما ذكرتم بل يورث اعتدال الأعصاب وعدم الغضب ولا شك أن هذه الصفة هي مصدر كل خير ولا ينفع ذكاء بدونها وقد قال حكماء المسلمين إن الغضب هو مصدر كل شر وأصل كل خطيئة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له في الوصية لا تغضب وفي الحكم المأثورة من لم يكن عقله أكمل ما فيه كان هلاكه بأكمل ما فيه فمرادهم بالعقل هنا ليس الذكاء لأن الذكاء قد يهلك صاحبه بل مرادهم العقل الذي يرادف الأناة والتبصر في الأمور وهما ينتجان عن عدم سرعة الغضب كما هو معروف وما حسبتموه بلها في صاحب العيش إنما هو أناة وتبصر ولا عجب في ذلك فقديما ما غرت المظاهر لاتحاد الصور في الظاهر وتباينها في الباطن فالسجود للصنم كالسجود لله ظاهرا والتحدث بالنعم كالافتخار إلى غير ذلك وقد كان العرب يمدحون الصبي الطويل الأعنق الذي يشب كأنه أحمق لبعد غضبه وقد وصفوا الكرماء بالبله كما وصفوهم بالعمى والبكم والصمم وقالوا الأجواد صم بكم عمي فهم لا يبصرون وقال الشاعر: إن الكريم إذا خادعته انخدعا وهذه كلها كنايات عن التثبت والأناة وعدم التسرع في الأمور والتدقيق فيها وبالجملة فصاحب العيش لا يكون كثير الغضب. ولم نزل نسمع من مشائخ أهل الشرق أن السبب في كون أهل القبلة قليلي الغضب هو كون جل معاشهم من العيش ومعلوم أن عيش البشنة أشد في ذلك من غيره.
وأما كون العيش يحدث صوتا يزعج الآخرين فلا ضرر فيه ولا عيب على العيش من وجوه منها أن هذا الصوت من تمام أكل العيش ومن آدابه وهو دليل على صلاح العيش قالوا ولا يكون إلا عن كثرة اللبن وكيف يكون أدب الشيء عيبا لذلك الشيء هذا خلف لا يمكن. ومنها أن كل آكل يحدث ذلك الصوت فكيف يتأذى منه وفي الحديث الشريف لم يضحك أحدكم مما يفعل . هذا مع العلم أن أصحابنا قسموا الأصوات إلى ثلاثة أنواع نوع اضطراري كالسعال والتجشؤ وهذا لا مناط للتكليف فيه ونوع اختياري وهذا الأخير إما فيه مفسدة فمحرم شرعا كالغيبة وبعض الغناء وأما لا مفسدة فيه كصوت صاحب العيش فهذا مباح ومن أراد منعه فقد أراد منع المباح وتحريم المباح ليس دون تحليل الحرام كما هو معلوم. بل ليس ببعيد أن يكون هذا الصوت من باب إظهار النعم والتحدث بها وقد ورد أن الله تعالى يحب إذا أنعم على عبد أن يرى عليه أثر تلك النعمة ويستأنس لهذا الصوت أيضا بقول الشاعر:
[| [(
لا تشرب الكأس بلا هدرة۞فإنما اللذة للهــــــــــادر
ومتع النفس بما تشتهـــــي۞فالعفو عند الملك القادر
)] |]

وإذا فرضنا أن هذا الصوت عيب فما هو دون تلك الحركات الدورانية التي يحدثها آكل الكسكس لصنع اللقمة وتدويرها وذلك أن الحركة تنافي السكينة والوقار وحسن السمت وقد قيل لو خشع هذا لسكنت جوارحه ولقد يبلغ ببعضهم الحرص على تدوير اللقمة من الكسكس إلى أن ينسى حرمة الطعام ويجعل يقلبها كالكرة حتى تظن أن اللقمة هي المعنية بقول الشاعر:
[| [( كرة طرحت بصوالجة۞فتلقفها رجل رجل )] |] وقد يلكم بعضهم جليسه من غير قصد ولكن العمد والخطأ في حقوق المسلمين سواء وقد قال صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا ضرار . وهذا الذي ذكرنا لا يتم الأكل إلا به فكأن إذاية المسلمين لازمة لأكل الكسكس والعياذ بالله والقاعدة أنه إذا كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى مفسدة حرم وقد نهى الشرع عن النظر إلى المسلم نظرة تؤذيه فكيف بضربه. وأما كون العيش يوسخ صاحبه فهذا صحيح لكن بالنسبة لمن أكله أكل الكسكس وليس أكل العيش كأكل الكسكس ومن رأى أئمة أهل العيش يأكلون عشرة على قصعة علم أن الأمور تجري على أنظف وجه وأحسنه بخلاف ما نشاهد عند العامة من أكلة الكسكس فإنهم يأكلون العيش فيحاول كل امرئ منهم أن يدور لقمة منه وتدوير المائع كالخط في الماء لا يمكن عادة فيؤدي لا محالة إلى تطاير اللبن وتوسيخ الجلساء.
قال أهل الكسكس:
سمعنا جعجعة ولم نر طحينا فتعالوا بالله يا أنصار العيش نتحاكم على الإنصاف فإنكم تسلمون أن الكسكس ثريد ولا تسلمون أنه المعني في الحديث وتدعون أن المعني هو الأرز أو الهريسة أو نحو ذلك ونحن نسلم لكم ذلك جدلا لكننا نقول عن أفضلية الأرز التي تسلمون بها تدل بدلالة الإشارة على أفضلية الكسكس من باب لا فارق لأن الكل طعام طبخ بأبزار ولحم وإن لم تسلموا بهذا فيلزمكم بيان الفرق بل قياس الكسكس على الأرز من القياس الجلي الذي لا يحتاج إلى إعمال فكر فهو مما علم من وضع اللغة أصلا فكأنه منطوق . ثم إن الأرز الذي تسلمون بأفضليته على العيش بدليل أنه الثريد المذكور في الحديث قد تقرر عند أهل الطب أنه لا ينبغي أن يؤكل عليه العيش وكفى بالعيش ضعة أن يكون محرما جمعه مع أشرف الأطعمة قال الشاعر:
ومن يرد تكثر أخبـــاره فليأكل العيش على ماره
وقال آخر:
[| [(
يا ابن المشائخ خلط العيش الأرز۞عند المشايخ أهل الطب لم يجـــــز
ومن يخلطهما أمسى يخالطــــــه۞خلط من الداء بين الصدر والعجز
)] |] وفي العيش عيوب كثيرة منها أنه إذا أكله الشيخ ذو اللحية تبقى منه بقايا على لحيته لا يزيلها إلا الغسل ولا يجزئ فيها المسح وفي هذا ما لا يخفى من إهانة ذي الشيبة في الإسلام. ومنها أنه في زمن الخريف قل أن يسلم من الجعلات والحرشات والحشرات. ومنها أنه في زمن الشتاء يكون باردا لا يستطيع الإنسان أن يقتات منه إلا مع المشقة العظيمة. ومنها أنه في زمن الربيع يورث تبيغ الدم ويضر بآكله ومنها أنه في زمن الصيف لا يوجد له إدام فما من فصل من فصول السنة إلا وللعيش فيه عيب يرد به. ومنها أنه لا يصلح بدون اللبن فشرطه يغني عنه. ومنها أنه كثيرا ما يكون خاسرا والعيش الخاسر يورث أمراضا خطيرة أدناها التخمة والمحور. ومنها أنه تعلوه إذا برد قشرة يصعب اختراقها وليس هذا من شأن المؤمنين فالمؤمن هين لين. ومنها أنه “نفكة العيش” لا جوانب لها والبركة تنزل في جوانب القصعة كما هو مذكور في الحديث فبما أن “نفكة” العيش لا جوانب لها فإن البركة لا تنزل فيها لأن الصفة ترتفع بارتفاع محلها . ومنها أنه يصنع من كل شيء حتى ثمرة “آز وإينيت والحميرا” قال الشاعر:
[| [(
بفضل الله جل ولا ســـواه۞وقانا الله في الأزمات ضيــــرا
نعول في الإدام على فلندا۞وشطر العيش من هذي الحميرا
)] |] وخير هذه الأشياء الحميرا وقد استعاذ منها العبد الصالح حيث يقول:

[| [( إنا استعذنا بجاه المصطفى وبكم۞من الحميرا بلا دهن ولا لبــــــن )] |]

وكون العيش يصنع من كل شيء دليل على تفاهته وابتذاله :

[| [( لقد هزلت حتى بدا من هزالها۞كلاها وحتى رامها كل مفلس )] |] فأنى يصح لمن هذه عيوبه أن يوصف بالطعامية فضلا أن يوصف بالشرف والفضل.
وأما ما ذكرتم من فضل اللبن على اللحم واستدلالكم بشاة أم معبد فهو استدلال كتفلة الأعمى فأين وجه الدليل في كون شاة أم معبد رضي الله عنها حلبت على كون اللبن أفضل من اللحم؟ وإذا كان الأمر كذلك فنحن نعارضه بكون الهدي لا يكون باللبن إجماعا وإنما يكون باللحم وإذا تعارض دليلان وتساويا سقطا . ثم إن من المكابرة أن نقول إن قرى الأضياف باللبن كقراهم باللحم إذ المدار في حسن القرى على ما يرضي الضيف ولو سألنا أي ضيف أيهما أحب إليك اللحم أم اللبن؟ لقال اللهم اللحم إن لم يكن ممن علق به شيء من هذه الشبه التي لا تعتمد على شيء يذكر. وأما كون محور الأول سببه كسكس فهذا شيء لم نسمعه إلا منكم ويأباه كون الناس كانوا لا يصنعون إلا العيش في الزمن القديم ويؤيده دعاؤهم المأثور اللهم سلم لنا معيزنا التي منها إدامنا وآبارنا التي منها شربنا ومزارعنا التي منها بشنتنا إذ من المعلوم أن “بشنة” لا يصنع منها إلا العيش. وأما ما ذكرتم من كون الأصوات ثلاثة وجعلتم صوت آكل العيش صوتا مباحا فهو كلام لا طائل تحته لأنه استدلال في غير محل النزاع فنحن لا ننكر إباحته وإنما ندعي أنه مخالف للأدب وهو كذلك قال الشاعر:
[| [(
وأبغض الضيف ما بي جل مأكله۞لكن تنفجه بالبيت إن قعـــــــدا
ما زال ينفخ جنبيه وحبوتــــــــه۞حتى أقول لعل الضيف قد ولدا
)] |]

ونحن لا ندعي حرمته وقد قال مالك بن أنس رضي الله عنه ما أدركت الناس يقولون هذا حرام وهذا حلال فالحرام بين والحلال بين ونحن نقول إن هذا الصوت مخالف للأولى والأكمل وأنتم تعلمون أن مقام المناظرة يقتضي الكمال ولذلك قالوا من ألف فقد استهدف وذلك أن المؤلف كالمناظر من حيث أنه ادعى لنفسه نوعا من الكمال. وأما قولكم أن هذا الصوت لا يبعد أن يكون تحدثا بالنعم فهو من التعسف والتكلف الذي لا يليق بالعقلاء فالتحدث الممدوح شرعا إنما يكون بقول أو فعل دال على ذلك فأما القول فبحمد الله وشكره وذكر نعمه بلفظ مركب مفيد وأما الفعل فبصرف النعمة في ما أمر الله أن تصرف فيه وبإظهارها في اللباس والرياش وبصرفها في وجوه البر كالتصدق على الفقراء والمساكين وليس هدير آكل العيش من هذا في شيء وليس الهدير من جنس العبادة حتى تكون النية تؤثر فيه فمن ادعى أنه قربة فقد أعظم الفرية بل هو أشبه بما اختلق العرب في الجاهلية من النهيق عند خيبر ليسلم الشخص من وبائها. وأما ما ذكرتم من حركات صاحب الكسكس فهو صحيح ولكن لا عيب فيه لأنه لا يمكن أكل الكسكس إلا به وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مع أن في الحركة بركة وتعين على هضم الطعام فمنعكم لآكل الكسكس شرعا محتجين بأنه لا يخلو من إذاية المسلمين لا يستقيم لأن هذا من الذرائع الملغاة شرعا كغرس العنب الذي قد يكون ذريعة لعصر الخمر والحق أنه لا بد للناس من معاشهم فمن حرج عليهم فيه فإنه لم يفهم من الشريعة شيئا. وإذا علمتم هذا وعلمتم أن ما أجبتم عن العيش لا ينهض حجة فاعلموا أن للكسكس مزايا لا يشاركه فيها صاحبكم هذا: منها أنه يدخل على جميع الأطعمة وتدخل عليه وفي هذا ما لا يخفى من التيسير على المسلمين بخلاف العيش فإنه لا يجتمع مع الأرز سواء تقدم أو تأخر ولا يشرب عليه لبن الإبل بتاتا. ومنها أن الأتاي يكون أطيب ما يكون بعده بخلاف العيش. ومنها أنه لا يطبخ إلا بالدسم والمرق وهما من أطيب الأطعمة. ومنها أنه يبرم والإبرام خير من كل شيء قال:
[| [( رجعا بأمرهما إلى ذي مرة۞حصد ونجع صريمة إبرامها )] |] ومنها أنه غير ثقيل في البطن يمكن للإنسان أن يأكل منه أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم من غير أن يشعر الآكل بأي ثقل والعيش ليس كذلك فمن أكل منه لقما قليلة أصبح يطلب النفس من السماء. وبالجملة فشرف الكسكس على العيش نار على علم والاستدلال عليه من باب الاستدلال على النهار.

يتبع بحول الله

[الجزء الأول ->http://www.niefrar.org/spip.php?article149]

2 تعليقات

  1. لقد والله أشع الساحة الثقافية بكتاباته لاشلت يمينه متعنا الله به معاشر تشمشه

  2. أطال بقاءك ومد في عمرك ياشيخنا علي لفتتك علي موقعنا لتفيد من خلال كتاباتك المفيدة والممتعة واللتي تظهر في شكل طرفة ثم تتجلي للقارئ والمتصفح اذا أمعن النظر في مضمونها أنها وعاء للفائدة والطرفة الخفيفة والحببة الي النفوس وفي طيها ما في طيها من حكمة وجوهرة فريدة الخ…..

اترك رد