فكرة ولكنها لم تر النور

فكرت مرة في أن أؤلف كتابا في تاريخ مدينة المذرذرة – حرسها الله – على غرار ما يفعله الأخيار من العلماء والمؤرخين والكتاب بمدنهم، اعترافا لها بالجميل وتعريفا بها وبالفضل الذي حباها الله تعالى به وبالخصائص التي أودعها سبحانه، على شاكلة ما فعل الوزير لسان الدين الخطيب في كتابه المشهور: “الإحاطة بأخبار غرناطة” إذ عرف فيه بتلك المدينة (الأندلسية العريقة، من يوم نشأتها إلى أيام المؤلف، وذكر من تداولوا عليها من الملوك والأمراء ومن دخلها من العلماء والرؤساء).
فكّرت في ذلك ثم فكّرت وقدّرت ثم قدّرت ثم هتف بي هاجس من نفسي قائلا: “مالك ولهذا؟ أليس غيرك من المؤرخين المهنيين أولى به، وأحق بتعاطيه، وأطلع بمسؤوليته منك، فإنك امرئ لم تتخرج من جامعة، ولم تحصل قط على إجازة في التاريخ ولا الجغرافيا ولا علم الاجتماع ولا علم الافتراق ولا حتى علم الحوليات.
وإنما الشيء الوحيد الذي “تأتى به السلطان” هو علاقة ضئيلة بسبب هذه المادة التي يسمونها الأدب والتي يدعيها كل من هبّ ودبّ، ومن عادة من ادعاه أنه يدعي معه علم كل شيء حتى علم الأوفاق والتربيع والسيمياء والهيمياء وعلم النَّيْم.
ولعلك إنما سولت لك نفسك ما سولت لهذا السبب، فزينت لك التسور على موضوع لا قبل لك به إذ لا تملك لمواجهته أدنى كفاءة، ولا تتمسك من مقوماته بأدنى تسبب، ولعل ما تمتلك من موانعه أكثر مما تمتلك من شروطه، فدع عنك هذه وادع علم الغيب فذلك خير لك من المغامرة في واد مملوء بالذئاب والضباع ولا ندري ما يكتنفه من ذوات السم والسباع، فتنصب نفسك عرضة للناقدين وتسجل على نفسك – على رؤوس الأشهاد – أنك أجهل الجاهلين وأغفل الغافلين….”.
هكذا هتف بي ذلك الهاجس النفساني.. ثم لم ألبث أن خطر ببالي خاطر مغاير، لم أدر مصدره، ولكني وجدت برده في صدري، نفث في روعي: “لابد من العمل على إخراج كتاب: “رفع اللنكه في أخبار مدينة الصنكه”، فلاشك أنه – إن شاء الله – سيكون معلمة تاريخية يغار منها ما كتب عن مدينة المنصور، وقاهرة المعز، ناهيك عن مراكش الحمراء، والدار البيضاء وحلب الشهباء وتونس الخضراء.
“فقوّ – يا هذا عزمك واستعذ بالله واستعن به في إخراج هذا الكتاب من مرتبة الإمكان إلى مرتبة العيان، فالمصادر المكتوبة موجودة تزخر بها المكتبات والوثائق تدرك شعاعها العين المجردة من بعيد، والمصادر الشفهية مازالت محفوظة متداولة في المحافل وحلقات السمر، بالإضافة إلى الآثار المشاهدة على أديم الأرض كما قال أمير الشعراء في أوائل القرن العشرين.

هذا الأديم كتاب لا كفاء له***رث الصحائف باق منه عنوان

فخذ عزمك بيديك وأطرد خواطر السوء فهي المثبطات المحبطات، لا تزال تفت في أعضاء أولي الهمم العوالي وتثبط من عزائمهم، وتزين لهم الوقوف في أصطبل البغال والحمير، والعزوف عن تسنم قمم المجد، وتسلم جوائز الحمد، فلو أن كل عظيم أصغى لوساوسها لما رأيت البتة في الدنيا عظيما ولما رعيت إلا هشيما.

“خذ المزبز بشناترك واكتب الباب الأول في أصل اشتقاق كلمة المذرذرة، أعلم أن كلمة المذرذرة اسم فاعل من الفعل الحساني: تذرذر بمعنى تساقط، قيل سميت بذلك لصعوبة طيها وتساقط أعواد طيها وهي في الأصل بئر لبني… (وأحذر أن تقول ما ليس لك به علم).. وكانت في القديم تسمى كذا كما ذكر محمد والد بن خالنا في كتاب الأنساب… وانح بهم ذلك النحو يا أبا الأسود.
وبعد أسبوع أو أسبوعين تقضيهما وأنت راتع في المراجع المتوفرة واسبوعين آخرين في المراجع غير المتوفرة – كما ترتع الإبل في الطير وآسكاف، فإذا بالكتاب قد بدأ يأخذ شكله شيئا فشيئا كما يتطور الجنين من العلقة إلى المضغة ومن المضغة إلى العظام ثم إلى اللحم والشحم السمين، فيقول الناس: هل رأيتم الكتاب البديع الذي فلان بن فلان المذرذري؟ في تاريخ مسقط رأسه مدينة المذرذرة”؟ فقد أتى فيه بالعجب العجاب.
“ثم بادر – والله في عونك – إلى طباعته ونشره قبل أن ينفد وهو مازال في القدر على النار تتلقفه ملاعق الباحثين” بالأخذ والاقتباس والاستشهاد… والانتحال، وقبل أن يدخله – بغير علمك – التحوير والتزوير لمآرب وأغراض أنت منها فالج بن خلاوة (بريء).
“وإذا يسر الله تعالى لك طبعه ونشره فاحمد الله ثم استعد لمواجهة الناقدين الذين يعيبون تافلويتا لا يأتون بمثلها، ولعتب العاتبين إذ لا تدري لعل منتوجك هذا لا يرضي ثلة من القارئين لأنه “يقول: على الناس وعلى الدهر بعض الأقاويل، وشكك في بعض المسلمات فوسع صدرك لما هنالك، ولا تلزم نفسك أن تعد لكل آبدة جوابا مادام الأمر مقتصرا على الكلام، أما إذا سبقت اللام الكاف فلابد من إعدادك جوابا حازما أكثر صرامة وأشد قوة والله هو الواقي”.
هكذا قال لي الخاطر الثاني، وبالرغم من إلحاحه علي ومراجعته إياي أكثر من مرة أصارحكم بأنه ما أقنعني بعد، فمازال بعد كتاب رفع اللنكه بأخبار مدينة الصنكه في ظلمات الأرحام، مجرد أحلام، مجرد أحلام.

الاستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف

2 تعليقات

  1. لمرابط ول دياه

    حبذا لو كانت الحطة الأولى من الكتاب هي إتحاف القارئ بمن تعاقب على الصنكه من الحكام قبل وبعد الاستعمار حفظ الله أستاذنا

  2. اسكي حتتتته!! واسو ننو

    مقال عميق وطريف وشيق كما عودنا بأسلوبه السهل الممتنع أستاذنا الجليل بباه أطال الله بقاءه. وفيه إلى جانب الفوائد والنكت الكثيرة نقد وتشخيص حكيم لواقع التأليف في بلادنا والفوضى التي يشهدها للأسف.

    تهنئة خالصة لك عزيزي سيدي على هذا الموقع الرائع فجزاك الله خيرا وسدد خطاك

اترك رد