الرئيسية / Best / رسالة الكوس (الجزء الثاني)

رسالة الكوس (الجزء الثاني)

ولا تمنعك أيها الأخ المرابطة في المساجد من أن تلتمس عملا دنيويا تغني به نفسك فالصفق في الأسواق لالتماس الأرزاق خير عند الله من عبادة الله في المسجد وسؤال الناس في المتجر.
ولعلك تقول وأين لي بالعمل فما تلقيت قط درسا ولا تلاوة من النوع الذي يريدون أجهل اللغة جهلا تاما ولا أجيد اللغة العصرية وحظي من علم الحساب قليل لم يتعد الكسور وصرفها ولا أحفظ من التاريخ إلا قصة طلوع كبلاني ونتفا من سير ديلول ومبلغ علمي من الجغرافية ينتهي عند هذا البحر المحيط وأنت تعلم أن العمل الذي أطمح إليه لا يناله إلا الدارسون ممن عرف اللغة وفرسانها الكبار من أمثال روسو وفولتير وبودلير وقرأ عن الفراعنة الأولين وعن السامريين والسومريين وأضاف إلى ذلك سيرة نابليون ولوثر وكالفين ثم كان في الحساب كإقليدس وأحاط بالسماوات والأرض جغرافية وعلم ما يأكل أهل الهند وما يشربون وغذاء أهل اليابان والفلبين.
وهب أني مع جهلي بهذه الأشياء جمعت لفقه سحنون نسك سمنون وكنت كرابعة العدوية أو رابعة البدوية واستوعبت ما لمالك وابن مالك ونافع وابن نافع والقاسم وابن القاسم وعاصم وابن عاصم وقرأت لمحمد بن يوسف ومحمد بن يعقوب ومحمد بن إسحاق ومحمد بن إسماعيل ومحمد بن إبراهيم ما خولني ذلك عملا أقوت به نفسي إلى آخر ما ستقول ولا شك ــ أيها الأخ ــ أن هذه الحجة واهية وكلمة حق أريد بها باطل ومحاماة عن البطالة باطلة فما حصر الله تعالى عمل المكلف في التوظف وما جعل غاية الأرب في الجلوس على المكتب فأبواب الرزق كثيرة ومختلفة كالسبل الموصلة إلى الجنة ولا يدري المرء في أي باب يفتح له والتعلق بعمل معين من الشهوة الخفية والحظوظ النفسانية وأنا أربأ بك عنها.
على أنك تعلم أن الحصول على الشهادة وحده غير كاف للحصول على العمل ولم يزل السلف الصالح يستعيذون بالله من علم لا يصحبه عمل فإذا سألت الله في أحد مجالس الذكر أو أحد الجوامع أن يرزقك شهادة فاسأله أن يرزقك العمل بها فرب رجل يحمل شهادة عالية وهي عليه وبال لأنه لا يستطيع أن يعمل بها في كل شيء وليس كل شيء معروضا عليه ليعمل فيه. ومن الناس من يفضل بعض الشهادات على بعض ويرون بعضها أجدى في العمل من بعض ولعله قول مبالغ فيه إذ العلم واحد معروف منضبط. وكتب أحد سكان البادية إلى صديق له في انواكشوط: أما بعد فقد أرسلت لك ابني فلانا وهو طالب للعلم والعمل فكونوا معه في أمره جزاكم الله خيرا.
ولا شك أن هذه الدار مباينة تماما للدار الآخرة فقد يبطئ بالمرء فيها عمله فيسرع به نسبه وقد تنفع فيها القرابة والخلة والشفاعة والكافرون فيها في أعين الناس ليسوا هم الظالمين. أما أذا أبطأ بك نسبك ولم يؤذن بالشفاعة لك فوسع صدرك لمواعيد الاثنين والخميس وهما يومان يرفع فيهما العمل فافهم وإذا كانت الحياة أملا ورجاء فلا فرق بين أن يعيش المرء بين أمل مظنون وأمل متواقع. فانتهز أيها الأخ الفرص إذا سنحت ولا تشترط علو الراتب إذ لا يتخير إلا من أخصب على أن الجمهور من أهل الرأي يرون أن تدبير القليل خير من جمع الكثير وأعرف رجلا بنى دارا وتزوج وولد له وطلق زوجته من منحة ضئيلة كان يتلقاها من إحدى المؤسسات ثم كان له بعد ذلك حانوت وسيارة أخرى ولا شك أن أهل الإسراف مثلي ومثلك سينكرون وقوع مثل هذا وهو مع ذلك الحق ويقولون هذا رجل لا يأكل ولا يشرب ولا يعطي ولا يشهد الحفلات كلا والله كان صاحبنا هذا آية في المروءة والإنفاق إلا أنه التدبير.
ولكن لا يحملك عافانا الله وإياك خلو الجيب وقلة ذات اليد على المخاطرة فيما لا تحمد عقباه فإياك ثم إياك والتجارة الكبيرة لا تملك لها وسيلة ولا فضيلة ولعلك تسمع عن قوم تبتبوا فنجحت لهم تبتبتهم فأنشئوا شرائك وهمية غروا بها جهابذة المصارف حتى أقرضوهم قرضا حسنا فإن أكثر ذلك مما يسمع لا مما يقع فلا يغرنك ذلك فإن للنقود كما للناس حفظة كاتبين ثم إياك أن يقال فلان الفلاني كيت وكيت فإنك إن تظل تلعب بالبعر تحت الشجر معافى في بدنك آمنا في سربك خير من أن تحبس مع قوم لا يجمعك وإياهم إلا ما جمعكم في ذلك المكان. ولعلك تجد من إخوانك الأقربين وأصدقائك المقربين من ينهاك عن الخمول ويأمرك بركوب الصعب والذلول ويقول لك إن السماء لا تمطر ذهبا فقل له سلام وأنشده قول الأول:

لقد رضيت همتي بالخمول****وفرت عن الرتب العاليه
ولم تك تجهل طعم العلــى****ولكنها تؤثر العافــــــــيه

ولا يستهويك العقار تبيعه وتشتريه على غير ما أذنت به الدولة ولا تكن كساكني بعض الكبات الذين يبنون فيما لا يملكون فإذا أمروا بالمغادرة صار بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم.
وإذا رغبت عن السكنى مع الناس وكرهت أن تكون عالة على غيرك فلا مانع من أن تسكن وحدك والذي عليه المعول منذ زمان أن يشترك القوم العزاب من أهل منطقة واحدة أو يحضرون شهادة واحدة في كراء بيت منعزل وغالبا ما يبغونه مختفيا كالطلسم لا يهتدي إليه إلا أهل علم التربيع والأوفاق ولكن ذلك لم يمنع قط من العثور عليه فالموريتانيون الموريتانيون وهذا هذا.
ولا جرم أن في كراء النفر البيت الواحد فوائد جمة منها أنهم يصبحون يملكون من أمر نفوسهم ما لا يملكون في بيوت غيرهم إلا أن لها مع ذلك مضار حدثتني بها إحدى النساء قالت: اعلم أن في كراء النفر البيت الواحد مضار منها أن البيت الذي ليست به امرأة من زوجة أو أم لا يقوم لنفقته شيء لأنه سيصبح ــ أحب أهله أم كرهوا ــ منتدى للشباب من جميع الآفاق لا تفرغ زريكة إلا تبعت إثرها أخرى ولا يغرب مغرج إلا طلع آخر على حد قول بعضهم:

وفرنتنا طول المبيت تزوجــــت********مغارج شتى مغرجا بعد مغرج
إذا غاب عنها مغرج جاء مغرج********فتلقاه بالوجه الطليق المبهــــج 

وهذا الشباب فيهم من تعرف ومن لا تعرف إلا أن صديقك المكتري معك يعرف من يعرف من يعرفه قالت وهذا لا تقوم له سليا ولا غيرها ثم قد تعرض مشكلة الشركة في المستراح مع المكري وعلى من يجب إصلاحه إذا فسد وغالبا ما يقسم على الفريقين بحسب الحصاص وقد سئلت امرأة مكرية مرة عن الرجل الذي في المستراح فقالت لا يعدو أن يكون فلانا أو فلانا أو فلانا لنفر من تكوس يسكنون البيت.
وقد يوجد البيت داخل حارات بنات الليل فيكون بذلك أكرم جار لأغرب دار وقد تنشأ مودة بين الدارين وقد تنشأ الشحناء ولا أدري أين سمعت هذا البيت:

قد اشتكت من جارها الزماره*****وأعلمت بذاك أهل الحــــاره

وحدثني أحد الأصدقاء قال كنت ليلة أتجول في أحد الأزقة التي كانت تزن بشيء من هذه الريب وصادف ذلك أن العسس من الشرطة يطاردون كل من ظفروا به من أهل الفساد فلما أحسست بهم انتابني خوف شديد فذهبت أقرأ سورة الملك بأعلى صوتي فلما رآني العسسن ظنوني أحد المريدين ممن غلبه الحال فلم يتعرضوا لي بسوء قلت له: أما علمت أن سورة الملك تجادل عن صاحبها. وحدثني بعضهم ممن تاب وأناب قال: بنات الليل أصناف شتى وقد فتح لكل نوع منهن باب من التستر فمنهن من يتذرع بحانوت فيه بضاعة ظاهره الكساد وباطنه رائج السلعة ومنهن القائمات أمام المخازن ومنهن الواقفات المستوقفات. قيل ومنهن من يستدرج الرجل عن طريق البند والنعناع. قال بعضهم: الزمارة لا تسألك ممن أنت وإنما تسألك هل فيك شيء وقد ذكرنا في كتابنا فتاوى الشياطين طرفا من عوائدهن فراجعه إن شئت ولا بأس بمعرفة بعض الشر لتجنب كله إن شاء الله.
واعلم أنه كان من عمل الناس في الزمن الأول أن لا يجتمع عشق وأكل أبدا قالوا ولأمر ما عدل امرؤ القيس ــ وهو من هو ــ عن التعبير عن الأكل بالارتماء حيث قال:

فظل العذارى يرتمين بلحمها *****وشحم كهداب الدمقس المفتل

إلا أن هذه العادة اليوم أصبحت معزوفا عنها فلا جرم أنه لا ضير اليوم في أن يدعو أحدهم محبوبته إلى وجبة في أحد المطاعم فهو أدعى للمودة وأجدر أن يؤدم بينهما وأنشدوا:

 

 شراؤك الدجاج للعـــــــــراد*****تأمل أن تظفر بالمـــــــــراد
خير من الجلوس في النوادي**** ترقب أهلها بلا ميعــــــــاد
وأنت في واد وهم في واد

وقيل: لو أن جميلا وبثينة قعدا ليلتين دون غداء وعشاء لبزق كل واحد منهما في وجه الآخر. وهذا النوع من الاحتشام الذي يفضله أهل البادية لم يعد ملائما لطبائع أهل الحضر قال بعضهم: عصرنا هذا عصر سرعة وإن من السرعة أن تصرح بما تريد فلا ريب أن المحب أحوج إلى ذلك من غيره وقديما قالت الأعرابية:

وإن سألوني من أحب فإنني****أحب وبيت الله كعب بن طارق 

وهذا التصريح بالحب وإن كان مخالفا لمذهب العرب الأول فهو أقرب إلى الصواب وقد يعاب على أبي الطيب قوله:

وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربــه*****وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
وبين الرضى والسخط والقرب والنوى*****مجال لدمع المقلة المترقـــــــــــرق 

على أن من النساء من لا يقبل إلا ذا المفاتيح فلا تطمع فيهن ولا ترسل طرفك إليهن

فإنك إن أرسلت طرفك رائدا****لقلبك أعياك الذي أنت ناظـــــــر
رأيت الذي لا كله أنت قــادر*****عليه ولا عن بعضه أنت صابر 

وارض بمن دون هذا النوع إلا إذا كانت لك مسحة من جمال أو زائد ظرف تغفر لهما رثاثة برديك وثقب نعليك أو وجدت من الكبيرات من يحنو عليك فالكبيرات حسب ما يقال هن أكرم نزلا وأنظف منزلا يرضين بالقليل رضاهن بالكثير ويلحقن برجل الغني رجل الفقير.
وأما حديثات السن فإياك وإياهن إلا إذا كنت داخلا في الموضة جامعا بين الجدة والجودة ذا ثراء ورواء تقبل على أربع وتمشي على أربع صلصلة مفاتيحك تسمع قبل شم عرف ريحك. وليس القيام مع الموضة بالسهل والله، فالموضة كالدابة التي تأتي آخر الزمان لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب وقد حار الأولون والآخرون في تعليلها ونشأتها ولهم في ذلك مذاهب مختلفة وأحسن ما قيل فيها أنها ما يفعله الأغنياء فيستحسنه الناس فيفعله الفقراء فيستقبحه الناس وسر المسألة مبني على حب الغنى وكراهية الفقر وعباد الله ليسوا من هذا الصراع في شيء ولا شك أن للترويج والإشهار تأثيرا عظيما فيها ولعلك سمعت عن قصة التاجر بائع الخمر السود بالمدينة المنورة إذ يروجها له أحد نساك المدينة بالبيت المشهور:

قل للمليحة في الخمار الأسود*****ما ذا فعلت براهب متعبـــــــد 

ولعل من الطريف أن الترويج كان في بلادنا هذه إلى زمن متأخر سببا في كساد التجارة وكان التجار ينفرون منه. والموضة كما في كريم علمك ليست مختصة باللباس فهي في كل شيء حتى في الكلام والتخاطب وما يفعله المرء في خاصة نفسه إلا أنها إذا أطلقت فالمراد بها موضة اللباس.

محمد فال بن عبد اللطيف

يتبع قريبا بحول الله

 

اترك رد