الرئيسية / قراءات أدبية / قراءة نقدية في گاف من گفان لشوار

قراءة نقدية في گاف من گفان لشوار

الشور

يعدُّ شور “مَشُّو لِمْعَيَّطْ شُورْ الشُّوفْ” أحد أجمل الأشوار “الزمنية” في الموسيقى الموريتانية؛ ويشكل مع “يالوليلي دزيت امبر” سمفونيتين خالدتين للفنان الراحل امحمد بن أحمد بن انگذي المشهور بلقبه “لعور”؛ الذي يعتبر أحد المؤسسين للمدرسة الفنية الأنگيذجية.
لم أجد أي معلومات حول السياق الذي لحَّن فيه الموسيقار “الشور”، و لا عن سبب اختياره لمقام كر، ولكن المتمعن في معنى عبارات “لازمة الشور” يفهم أنها تشير إلى الإنذار المبكر ف “الشّوفْ” هو الربيئة؛ أي الطليعة المكلفة بمراقبة العدو من مكان عال “، ولمْعَيَّطْ” هو النذير الذي يرسل على جناح السرعة للإخبار باقتراب الخطر الداهم، وهو الدور الذي لعبه ضَمضَم بن عمرو الغفاري عندما أشعر قريشا بتهديد جيش المسلمين لعير أبي سفيان بن حرب.
ويتفق الأدباء ومتذوقوا شعر الحسانية على أن أغلب “گيفان” هذا الشور تصنف في خانة الأدب الرفيع.

الگاف

رَاجِـــلْ يِچــــلِّيتْ ابْوِذْنَيهْ *** وبْعِيْنِيهْ ءُ يَسْمَعْ وِ شُوفْ
وِسْمَعْ ذَاكْ ءُ شَافُ نِكْريهْ *** إِلَى مَا وَلَّ غَزْلُ صُوفْ

الأديب

من الصعب القطع بصحة عزو “گفان لشوار” لقائليها، والاعتماد في ذلك يكون غالبا على الرواية الشفهية المتواترة، ويعزو بعض الأدباء هذا الگاف إلى ولي الله أحمد بن محنض اليعقوبي نسبًا (ت 1969)، وقد عاش الشيخ في المنطقة الجنوبية متنقلا بين اجال و الصنگ و إيگيد… والتقى مرارا بأسرة أهل لعور بن انگذي، مما يعني أنه عاصر الفنانة چليت واجتمع بها، وهما شرطان أساسيان في إثبات نسبة الگاف إليه. ومن المعروف أن الشيخ أديب بارع، إضافة إلى أنه متصوف محب للسماع والإنشاد، وإلى ذلك يشير الشيخ الأديب المختار بن حامد بقوله:

احميد أنس رفيقه وســـــــــــــميره***ونـــــــــظيره لولا انعدام نظيره
والياء للتعظيم فيه وربمــــــــــــــــــا***تأتي لفضل الشيء لا تصغيره
وإذا ترنم بالقصائد مـــــــــــــــــــــرة***وشدا بشعــــر جميله وجريره
طرد الأسى ومحا اسمه إن الأسى***يمحى بحرفي حـلقه وصفيره

الفنانة

الفنانة التي ذكرت في “الگاف” هي چليت بنت لعور، وقد أطلقت عليها أمها فاطم النعم تبركا اسم أم شيخها لمرابط محمذفال بن متالي، وقد اشتهرت الفنانة چليت بالملاحة وحسن الشدو والمهارة في التلحين؛ وإلى ذلك يشير الشاعر الحسني ثم الأگداشي أحمد بمب بن عينين الحسني بقوله:

لچليت أنغام ووجه ومزهـــــر***وثغر شتيت النبت مصباحٌ أزهر
ترد به منا الحليم إلى الصبــا***وتــــــوقد نارا في الفؤاد فتزهر
فهذي خصال قد درتها تليدة *** وچليـــت أدرى بالخصال وأجدر

ولبراعتها في الأشوار وقدرتها على إنشاد “البيت لكحل” شبهها أحد الشعراء بوالدها المتميز لعور في قوله:

چليت امنين اتكول البيت *** الزين اتكول الشور الزين
وطـــــم امحمد من چليت *** والخلط لثنين اطميمين

و الفنانة چليت هي شقيقة عيش بنت انگذي وقد جمعهما الشيخ محمدن بن باب خي المالكي في گافه الجميل الذي أنشده في مجلس سماع عند بئر آرويگيج سنة 1939

الهول الــــــزين اعل سبل *** معطوف اعل چليت ء توف
والهول اللي معطوف اعل *** چليت اعل عيش معطوف

كما فاضل الأديب محمذن بن دادا رحمه الله بين بنات لعور مع زوج شقيقهما محمد عبد الرحمان بقوله:

چليت ء عيش لا فخر *** فلهول أخوات ء ذ معروف
يغير اص عيش لخر *** توط فلــــهول اعل لحروف

وقد ورد ذكر چليت كثيرا في “گفان لشوار” ، وتجدر الإشارة إلى أن الفنانة توفيت من دون عقب رحمة الله عليها.

التعليق النقدي

اتفق النقاد في إگيد على أن گاف الشيخ أحمد بن محنض؛ هو أحسن ما قيل في هذا الشور، ويبدو جليا أن صاحبه يتمتع بحس نقدي قوي، حيث إنه خلا من الهنات التي قلَّما يسلم منها نص مرتجل، وقد عدّد الأديب جميع الاحتمالات المطروحة في السماع؛ وهو ما يشي بخبرته في السبر والتقسيم؛ فحسب رأيه أن أي شخص لم يولد أصمَّ ولا أكمه، وحواسه سليمة، واستمع إلى شدو الفنانة چليت ومتع ناظريه برؤيتها، ولم ينقض غزله من بعد قوة أنكاثًا، فسيدفع إليه مكافئة.
استطاع الأديب – دون حشو أو إطناب- أن يصوغ تلك الاحتمالات الثلاثة مراوحًا بين الجملة الاسمية والفعلية (راجل يچليت ابوذنيه وبعينيه، يسمع وايشوف، واسمع ذاك أشاف)؛ إذ من المعروف أن الجملة الاسمية تفيد الثبات والاستقرار، بينما تدل الجملة الفعلية على الاستمرار والتغير خصوصا إذا كانت مبدوءة بفعل مضارع، كما جاء تقديمه للسمع على البصر في الحالات الثلاث؛ متناغمًا مع الأسلوب القرآني؛ فقد التقت الحاستان ثلاث عشرة مرة؛ جاء السمع فيها كلها مفردا في اللفظ وسابقا في الذكر، بينما جاء البصر مجموعا في اللفظ ولا حقا في الذكر، كما تقدم السمع أيضا على البصر في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد والنسائي في سننه ونصه: اللهم عافني بدني، اللهم عافني في سمعي اللهم عافني في بصري لا إله إلا أنت.

ودون الخوض في آراء العلماء حول أسباب تقديم السمع على البصر في القرآن، نلاحظ بالاستقراء أن من ولد أصمّ يحرم من التعلم والتعبير باللفظ المبين، بخلاف من يولد أعمى فغالبا ما يكون ذهنه قادرا على استيعاب العلوم أفضل من غيره، وتذكر تراجم الأعلام الكثير من النابهين الذين لم يروا نور الشمس ولكنهم فاقوا معاصريهم المبصرين بقوة بصيرتهم وعزيمتهم مثل: ابن سيدَه، والعكبري، والسهيلي والأعشيين والأعميين، والدكتور طه حسين وغيرهم.
ساق الأديب المثل “إولي غزلو صوف” دون أي تغيير في لفظه السائر، وهو أمر يؤكد عليه النقاد حتى أنهم صرحوا بأن الضرورة الشعرية لا تجيز تغيير لفظ المثل أو التصرف في الحكمة. كما أن الأديب استطاع توظيفه في الدلالة على أن النظر والاستماع إلى الفنانة چليت قد يدفعان المستمع إلى التفكير في تغيير عتبة بيته، وقد جاء به دون صناعة أوتكلف.
من ناحية أخرى يرى بعض أهل المعرفة و الذوق أن الگاف مصروف عن ظاهره، حيث يؤكدون أن الولفيين يطلقون لفظ “جُوللِّي” على الصلاة، وكلمة “چليت” على المسلمة مطلقا ويستنطق أهل الذوق الصوفي من ذلك إشارات لطيفة أعرضنا عن بسطها خوف التطويل.

يتواصل إن شاء الله مع گاف جديد

 

بقلم الباحث يعقوب بن عبد الله بن أبن 

8 تعليقات

  1. نظرت فجأة في موقع اخبار انيفرار فلفت انتباهي نص جديد في طبيعته ومنواله يتخذ من شور كر الشهير “مشول امعيط شور الشوف”
    طريقا نحو الأدب والنقد عن طريق تفكيك البنى الثقافية المرافقة لذلك المقطع الموسيقي.
    وبعد قراءة أخرى أدرك أن كاتب المقال أهدى لقرائه مائدة من التاريخ تجمع أطراف الفتوة، فجاء بسرد حنيذ.
    فعرفت أنها إحدى حوليات يعقوب التي تجمع بين مختلف المشارب وتأخذ من كل علم بطرف، فتحط ملعقة من كل فن، من التاريخ إلى الأدب والثقافة والسيرة والنقد وغير ذلك من المنحنيات الفنية القيمة.
    ويستحق ظهر “كر” وكل أشواره كثير نظر لما يحمل في طياته من المكنونات الخفية في أعماق الذوق، كما يستحق مشو لمعيط شور الشوف وقفة ذوقية تطلع حاضر الفن على بعض محطاته الساطعة والتي طبعت الذائقة الفنية بمثال يندر بلوغه.

  2. ما أحسن هذا وما أعظمه! لقد جئتنا والله بتحفة نادرة جعلتنا نشتاق لما بعدها من درر أدبية نفيسة..
    نحن في انتظارك، أخانا وأستاذنا الكريم

  3. وأفدت أستاذنا الجليل يعقوب
    مقالة نقدية لناقد بصيرمكتمل الأدوات رفيع الذوق يأوي من التراث إلى ركن شديد..
    وگاف احميد اجاله ضاهى عند أهل الذوق بيت ابن المعتز:
    وكان ماكان مما لست أذكره :: فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
    فصار أيقونة لدى القوم
    وأعرف أحد المجاذيب يحكيه بلغة الجسد ويُصرّ على أن الگاف لا يتنجى من حقه من لم يحكه بتلك الطريقة فيقول:
    رَاجِـلْ يِچـلِّيتْ ابْوِذْنَيهْ: ويضع سبابته اليمنى على أذنه اليمنى واليسرى على اليسرى
    وبْعِيْنِيهْ: ويضع سبابته اليمنى على عينه اليمنى واليسرى على اليسرى
    ءُ يَسْمَعْ: ويضع سبابته اليمنى على أذنه اليمنى واليسرى على اليسرى
    وِ شُوفْ : ويضع سبابته اليمنى على عينه اليمنى واليسرى على اليسرى
    وِسْمَعْ ذَاكْ: ويضع سبابته اليمنى على أذنه اليمنى واليسرى على اليسرى
    ءُ شَافُ: ويضع سبابته اليمنى على عينه اليمنى واليسرى على اليسرى
    نِكْريهْ
    إِلَى مَا وَلَّ غَزْلُ صُوفْ
    كل ذلك بحركة رشيقة متناغمة مع حكايته للگاف
    ولا أسمع هذا الگاف الا تلقيته وكأنني أرى حركات ذلك المجذوب.
    وكانت له طريقة أخري يحكي بها گافا آخر هو:
    إفكو گط انشال :: ذو ليّام اعلَ اندر
    وألا گبْلَ مزالْ ::ثم يسكت هنيهة ويهز رأسه أفقيا قائلا:
    إفكو بعد احصرْ !!
    ومن گيفان الشور كاف قيل في عهد الصورة الثابة:
    اعليكم ذ الخلق امجمّع :: يتنيمش كيفْ إل مصنوفْ
    إل يبغي يسمع يسمع :: ولّ يختير إشوفْ إيشوف
    كان ذلك في عهد الصورة الثابتة فكان الناس كأنهم صورة لفرط خشوعم أثناء الهول أما في عهد الصورة الحية والرسوم المتحركة فقد فقد التشبيه بعض قوته ، ولو قال: كـأن على رؤوسهم الطير لكان خيرا وأبقى.
    ولعلي أطلت عليكم بهذا الاستطراد
    مرة أخر أهنئك أستاذي على هذا النص النقدي الرائع ونحن في انتظار نص آخر ، فزدنا من حديثك يا سعد..
    كامل الود

  4. محمد سالم الهاشمي

    قراءة نقدية رائعة رغم قلة إن لم نقل انعدام القراءات النقدية في الشعر الحساني، بما يجعلها إبداعا في هذا الفن الغني بشتى الأساليب والمضامين والصور البلاغية الرائعة.
    ولئن كان المرحوم أحمد “أحميد” بن محنض، قد قاق أدبا وشعرا، وحصافة وصلاحا، فإني أراه إذا قرأ ما كتبته اليوم عن نصه هذا سيقول ما قاله أبو نواس حين مر مع أحد أصدقائه على أحد الأدباء يحلل شعره في أحد المجالس، فقال ابو نواس لصديقه تعالى نسمع عن هذا المتكلم بعض ما يقول فإذا هو يحلل قول أبي نواس: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر إلى آخره، فقال الناقد: أراد الشاعر أن يجمع بين لذة ذوق الخمر مع لذة السمع، فالتفت أبوا نواس إلى صديقه وقال له ما أحسن ما قال ووالله ما قصدته.
    فشكرا لك كثيرا

  5. أحسنت أخي الكريم كنت احسبني اعرف اغلب اسرار هذا الكاف لكن تيين لي أن أشياء كثيرة كانت غائبة عني فشكرا لك على التنبيه
    اكثر خيرك زيدن

  6. محمدسالم الشيخ

    بسط جميل و قراءة نقدية ماتعة تذكرنا بالتعامل الجدي و المنهجي مع نصوص لغن و من يتعامل معه كادب و ليس كفلكلور و يسعى لتطبيق المناهج النقدية عليه .. أحسنت الطرح و التسويغ و تفطنت إلى إشارات مهمة في النص و في الجو العام لفهمه .. أحسنت و واصل في هذا المنوال رجاء لتمتعنا و تعلمنا

  7. أحمدو بن أبن

    رائع..رائع!!
    لم أستغرب أن يأتي الأستاذ يعقوب ول أَبُنْ بهذه
    الصدف النادرة من أعماق الثقافة والتراث وثقافة
    المجالس مما لا يوجد بين دفتي كتاب واضمحل
    شأنا(وسار أهله وعفا رسمه).
    وله أن يقول:
    أنا البحر في أرجائه الدر كامن*
    فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

  8. ابراهيم ولد عموه

    استنطاق فني عميق لكاف من كفان الشور الحقيقيين في شور زمني من اشواق منطقة
    الكبله وتحديدا مدرسة اهل انكذي الفنية العريقة والتي تتميز يخصائص في هذا الفن عجيبة هي أنهم مبدعون حقيقة ويتفاعلون مع الردات تفاعلا فنيا رائعا قلما تفعله مدرسة فنية اليوم.
    الكاف رائع وعجيب .. فصاحبه قطعا دخل الهول في جنانه وذلك ما عبر عنه في كافه هذا الذي رسم لوحة فنية عميقة..
    وهذا الشور رغم انه شور زمني معروف عند مدرسة اهل انكذي جال فيه الادباء ودبجوا فيه الكفان الراائعة
    فلله در من قال:
    شورك هاذ يمي يخلع!!@@ؤقطعا عن ظاهرتو مصروف
    ؤاللي يبغي يسمع يسمع@@والل يختير اشوف اشوف!!
    هذا ، وللفن المورياني بصفة عامة والفن الاكيدي بصفة اخص سحر فاتن في قلوب وعواطف الفنانين والادباء ومتذوقي الجمال .. فلله در الفنانين ما اجمل ابداعهم في هذا الفن !!!
    وهذا الشور يعزف عادة في ابياظ كر وهي مرحلة متقدمة في الفن وقد سبق لي ان اكتشفت نظرية في هذا الفن تعنى بمنهجية له وهي قيد أن ترى النور عند الاستاذ الكبير والناقد النحرير بودرباله أباه.
    سلمت أناملك اخي .. ننتظر كاف آخر واستنطاق آخر .

اترك رد