الرئيسية / سلسلة مقالات الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف / محاضرة تحت عنوان “حديث حول رمضان في الشعر العربي” للأستاذ محمد فال بن عبداللطيف

محاضرة تحت عنوان “حديث حول رمضان في الشعر العربي” للأستاذ محمد فال بن عبداللطيف

القى الأستاذ محمد فال بن عبداللطيف المحاضرة التالية في بيت الشعر بانواكشوط يوم 16/05/2019.

 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه والمؤمنين

حديث حول رمضان في الشعر العربي

السيد المدير، السادة الحضور الكرام، أهل الصيام والقيام لكم مني كامل التحية والسلام.

وبعد

فقد سبق لي منذ بعض الوقت أن تحدثت من أعلى هذا المنبر ـ وبناء على طلب من القائمين على بيت الشعر الحبيب ـ عن شهر رمضان والصوم في الموروث الثقافي الشنقيطي. وقد تناولت في ذلك الحديث عدة محاور ثقافية لها صلة بالموضوع هي: رمضان في الوعي الجماعي الشنقيطي، مكانة الصوم في المجتمع الشنقيطي، رمضان والأخلاق والعبادة، رمضان مربد العلماء، رمضان والشعراء، رمضان ومشكلة ثبوت الهلال واختتمت بالكلام على عملية إفطار الصائم الجاري بها العمل في بلادنا هذه.

ولقد بقيت في قلبي نهمة لم أقضها بخصوص ما يتعلق بالعلاقة بين رمضان والشعر في التراث العربي بصفة عامة وفي شنقيط بصفة خاصة إذ تبين لي أن الوقت المخصص لذلك الفصل ما كان كافيا في الحديث الذي تكلمت عنه آنفا.

وكان من حسن الطالع وغريب الاتفاق أن اقترح علي السيد مدير بيت الشعر هذه المرة أن أخص هذه العلاقة بهذا الحديث الذي سأؤنسكم به هذه الليلة إن شاء الله تحت عنوان رمضان في الشعر العربي، وقد كان بإمكاني أن أسميه الشعر العربي في رمضان فلا فرق كبير بين العبارتين.

ولعل قائلا يقول ما لرمضان وللشعر فرمضان شهر تصفد فيه الشياطين والمردة كما ورد في الحديث الصحيح بما في ذلك شياطين الشعر ومعلوم أن الشعراء لهم علاقة وطيدة بطائفة الشياطين منذ عهد أعشى قيس وعبيد بن الأبرص مرورا بالنابغة الذبياني إلى الفرزدق وجرير إذ يبدو أن الإسلام لم يقض تماما على تلك العلاقة المفروضة بل لا تزال منها ثمالة راسبة حتى عند الشعراء الموريتانيين الآخذين بحظ من العلم والفقه والصلاح إذ نرى بعضهم يصرح بدون خجل بأنه يأخذ ما تتقاذف به الجنان إليه من الشعر البديع فينشره في الناس.

لهؤلاء نقول، أن هذه العلاقة مبالغ فيها. والحق أن الشعر كلام كسائر الكلام فيه الخبيث والطيب والنير والمظلم، هذا ما استقر عليه رأي العلماء بشأنه مع اعترافهم بأن وقار الحق والجد قد لا يتماشى مع تحليق الخيال الشعري في أودية الشعر ودروبه.

لذلك لا بد لنا من أن نعترف بأن الموروث الشعري الخاص برمضان والصوم لا يخلو على كثرته من ضحالة في المستوى الفني سببتها هذه القطيعة الأصلية بين الجد والهزل وبين الحقيقة والخيال.

فلا شك أن عطاءات مواسم الحج منذ الجاهلية الأولى إلى صدر الإسلام كانت أغزر من عطاءات مواسم الصوم حتى أن بعض الباحثين أنكر بالمرة وجود أدب خاص بشهر رمضان وشعيرة الصيام.

ولعل السبب في ذلك أن ظاهرة الحج كانت متأصلة في المجتمع العربي قبل الإسلام وكانت فرصة لتبادل الأفكار والأشعار والتفاخر بالأنساب والأحساب  ورؤية الأظعان والنساء الحسان فكان أقرب إلى الجو الشاعري بما فيه من حل وترحال وما فيه من أيام أكل وشرب عكس الصوم فإن طابع النسك والقدسية التي يمتاز بها شهر رمضان يجعله بمعزل عن كل ذلك.

بيد أنه ينبغي أن ننبه هنا أن طابع النسك قد لا يكون عائقا دون ظهور نوع من الأدب يجمع إلى وقاره جانبا من الهزل خصوصا إذا تذكرنا أن طبيعة النسك في البيئة الحجازية التي هي الأصل والمنبع لا تعارض ظهور نوع من أدب المرح والتظرف عرف به فقهاء الحجاز وعلماؤه منذ القديم ونحن نذكر قصة سعيد بن المسيب وهو من هو إذ نهى صاحبة هذا الوجه الجميل أن تعرضه لعذاب النار وقصة صاحبة الخمار الأسود وما فعلت بالراهب المتعبد ثم القولة المشهورة التي قالها أهل الحجاز في حق أهل العراق من أن نسكهم نسك أعجمي وهو ما نعبر عنه بالعامية ب”مجيء الآخرة”.

كل هذه الأسباب جعلت الأدب المتعلق بالصوم وشهر الصوم لا يكاد يوجد منه شيء يستحق هذه التسمية إلا الشيء القليل. وقد استقرأنا ما حصلنا عليه من ذلك فخلصنا إلى النتائج التالية:

أولا: تنميط هذه المدونة حسب أغراضها إلى الأنواع التالية:

ـ الأشعار التي تمجد رمضان وتحث على صيامه وقيامه وتنزيهه عن ما يكدر صفو قدسيته والحق أنما عثرنا عليه من ذلك غالبه مجهول القائل ضعيف فنيا فهو لا يعدو أن يكون حكما وتوجيهات نظمت في قوالب شعرية موزونة.

ـ أشعار في شكل تهانئ تقدم للأمراء وغالب ما حصلنا عليه منه جيد.

ـ أشعار يتذمر قائلها من فريضة الصوم على مذهب أهل المجون من الزنادقة ومن يتظرف على مذهبهم.

ـ أشعار وظف فيها الصوم لمقصد أدبي بلاغي وهذا النوع نادر وما حصلنا عليه منه جيد جدا حسب رأينا.

ثانيا: أن الأدب الشنقيطي التقليدي عار من هذا النوع من الأدب الخاص برمضان سواء تعلق الأمر بأي من هذه الأنواع الأربعة.ولا ندري السبب في ضحالة الأدب الشنقيطي إلا بخصوص ما يتعلق بالتذمر من شهر الصيام فلعل غيابه في الأدب الشنقيطي يرجع إلى بقايا ذلك الورع المرابطي المعروف موقفه من الشعر عامة وأحرى ما يستشف منه تمرد على الشرع.

فورود الصوم في الشعر الشنقيطي نادر جدا إذ يكاد يكون منحصرا على ما يرد في المراثي من كون الفقيد كان صواما قواما كقول ابن حامد في بعض مراثيه:

 

قؤوم إذا ما الصبر قر اجتيافه***صؤوم إذا ما القيظ حر اجتيابه

بليلة قر يصطلي القوس ربها***ويوم من الشعرى يذوب لعابه

 

ومنه قول ابن الشيخ سيديا يخاطب بئرهم ميمونة السعدى:

نظل وقوفا صائمين على الظما***نخال سموم القيظ في جنبها بردا

 

بعد هذه العرض العام يسوغ لنا أن نأتي بنماذج من هذه الأشعار حسب التفصيل الذي قدمنا:

1 الأشعار الممجدة لرمضان

قد استحوذت هذه الفصيلة بنصيب الأسد مما عثرنا عليه من الأشعار الرمضانية ولا يكاد يوجد فيها نص يمكن أن يوصف بالشاعرية ومن أحسن ما ظفرنا عليه المقطعات التالية:

قول بعضهم:

لا تجعلن رمضان شهر فكاهة***تلهيك فيه من القبيح فنونه

واعلم بأنك لن تنال ثوابـــــــه***حتى تكون تصومه وتصونه

 

ومنه قول الصاحب ابن عباد:

قد تعدوا على الصيام وقالوا***حرم الــعبد فيه حسن العوائد

كذبوا في الصيام للمرء مهما***كــــــان مستيقظا أتم الفوائد

موقف في النهار غير مريــب***واجتماع بالليل عند المساجد

 

وقول مصطفى صادق الرافعي:

فديتك زائرا في كــــــــل عـــــام***نحيا بالـــسلامة والسلام

ونعمل كالغمام يفيض حينـــــــــا***ويــــــبقى بعده أثر الغمام

وكم في الناس من كلف مشوق***إليك وكم شجي مستهام

 

وقول بدر شاكر السياب في ليلة القدر:

يا ليلة تفضل الأيام والحقبــا***هيجت للقلب ذكــرى فاغتدى لهبا

فكيف لا يغتدي نارا تطيح به***قلب يرى هــــــــرم الإسلام منقلبا

يا ليلة القدر يا ظلا نلوذ بـــه***إن مسنـــــا جاحم الظلماء ملتهبا…

تنزل الروح رفافا بأجنحــــــــة***بيض على الكون أرخاهن أو سحبا

وللملائك تسبيح وزغـــــــردة***تكــــــــــاد رناتها أن تذهل الشهبا

 

ومنه قول أحد الشعراء:

جاء الصيام فجاء الخير أجمعـــــــه***ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح

فالنفس تدأب في قول وفي عمل*** صوم النهار وبالليل التراويح

 

2 نماذج من الأشعار التي تقدم في شكل تهانئ للأمراء ونحوهم

وهذا القسم من أجود ما عثرنا عليه ومنه قول أبي بكر الصنوبري:

نلت في ذا الصيام ما ترتجيه***ووقاك الإله ما تتقيه

أنت في الناس مثل ذا الشهر في الأشهر أو مثل ليلة القدر فيه

 

ومنه قول الأمير تميم بن المعز مهنأ شقيقه الملك العزيز بالله:

ليهنك أن الصوم فرض مؤكد***من الله مفروض على كل مسلم

وأنك مفروض المحبة مثلــه***عــــــــــلينا بحق قلت لا بالتوهم

 

ومنها قول ابن دراج القسطلي:

فلئن عدمت هناك أمثال الدمـى***فهنا بيوت المسك فاغنم وانتهب

تحفا لشعبان جلا لك وجــــــهـه***عوضا من الورد الذي أهدى رجب

فاقبل هديته فقد وافى بهــــــــا***قــــــدرا إلى أمد الصيام إذا وجب

واستوف بهجتها وطيب نسيمها***فـــإذا دنا رمضان فاسجد واقترب

 

ولعل أجود ما قيل في هذا المعنى قول البحتري مهنأ الخليفة المتوكل:

بالبر صمت وأنت أفضل صائم***وبــــــــسنة الله الرضية تفطر

فانعم بعيد الفطر عيدا إنــــه***يوم أغــــــر من الزمان مشهر

أظهرت عز الملك فيه بجحفل***لجب يصان الدين فيه وينصر

إلى أن يقول:

ولو أن مشتاقا تكلف فوق ما*** في وسعه لسعى إليك المنبر

 

3 أشعار يتذمر أصحابها من فريضة الصوم

كان التذمر من شهر رمضان الذي يمنع الإنسان من تعاطي شهواته طبيعيا وخاصة لدى الأشخاص الذين لم يبلغوا درجة من الإيمان تجعلهم يتقبلون هذا النوع من الحرمان بلذة وطمأنينة أو على الأقل بصبر واحتساب وربما صدر منهم على وجه التظرف والمجون لا على أنه هو الشعور الحقيقي عندهم من ذلك قول ابن الرومي:

شهر الصيام مبـــارك***ما لم يكن في شهر آب

خفت العذاب فصمته***فوقعت في نفس العذاب

 

وقول الآخر وكأنه مذيل لهذين البيتين:

اليوم فيه كأنـه***من طوله يوم الحساب

والليل فيه كأنه***ليـــل التواصل والعتاب

 

وينحو هذا المنحى البيت الذي يعزى إلى أبي نواس وهو:

نبئت أن فتاة كنت أخطبها***عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول

إذ يبدو جليا أن مقصود الشاعر بهذا البيت هو التبرم من طول شهر الصوم لا هجو الخطيبة المسكينة، على سبيل الاستطراد كقول الشاعر:

إذا ما اتقى الله الفتى وهو مؤمن***فليس به بأس وإن كان من جرم

 

وأما ما يعزى إلى الأخطل من قوله:

ولست بصائم رمضان شهرا***ولست بآكل لحم الأضاحي

فلا أراه يصح وقصة وفود الشعراء إلى عمر بن عبد العزيز من أصلها لا تصمد لمحك النقد التاريخي.

ولم أعثر في الأدب الشنقيطي على شيء من هذا ولذلك أتجرأ هنا فأعمر تلك الخانة الخالية بمقطعات سبق أن قلتها على وجه الدهر زمن الدراسة والتحصيل منها:

يا رب إني ساكن بــــــلدة*** في رمضان ليس فيها سحور

وبصري أرجعــــــه كــــــرة***وكــــــــــرتين لا أرى من فطور

فقوني ربي على حمل ذا***واجعله لـــي زيادة في الأجور

 

وأخرى مثلها:

الصوم في بعض البلاد الشقا***صاحبه يؤجر إن قالا:

يبست العروق والأجر مـــــــا***ثـــبت والظمأ ما زالا

 

ومما يمكن أن يدرج في هذا الباب قول شوقي بك:

رمضان ولى هاتها يا ساقي***مشتاقة تسعى إلى مشتاق

 

ومن هذا الباب أيضا قول الشاعر:

إذا العشرون من شعبان ولت***فـــواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغــــــــــار***فقد ضاق الزمان عن الصغار

 

وهذان البيتان وإن كان ظاهرهما أنهما تحريض على شرب الخمر قبل حلول رمضان فإنهما كانا سببا في توبة عبد من عباد الله وإنابته إلى الله إذ رأى فيهما إشارة صوفية إلى المبادرة للعبادة قبل فناء العمر.

 

4 أشعار وظف فيها الصوم لمقصد أدبي بلاغي

من ذلك قول معروف الرصافي ينعي على قوم يسرفون في الأكل في رمضان ليلا تعويضا لما فاتهم من الأكل في النهار فقال:

وأغبى العالمين فــــــتى أكول***لـــــــــفطنته ببطنته انهزام

إذا رمضان جاءهمُ أعــــــــــدوا***مطاعم ليس يدركها انهضام

ولو أني استطعت صيام دهري***لصمت وكان ديدني الصيام

ولكن لا أصوم صيام قـــــــــــوم***تكاثــر في فطورهم الطعام

وقالوا يا نهار لئن تجعنـــــــــــــا***فإن اللـــــيل منك لنا انتقام

وناموا متخمين على امتــــــلاء***وقد يتجشـــــؤون وهم نيام

وقل للصائمين أداء فــــــــــرض***ألا ما هكذا فــــــرض الصيام

 

ومنه قول أبي نواس يرمي أحد قرنائه بالبخل:

رأيت الفضل مكتئــبا***يناغي الخبز والسمكا

فقطب حين أبصرني***ونكــــس رأسه وبكى

فلما أن حلفت لــــه***بأنــــي صـــائم ضحكا

 

ومنه قوله أيضا:

خبز الخصيب معلق بالكوكــــــــب***يحمــــى بكل مثقف ومشطب

جعل الطعام على السغاب محرما***قــــــوتا وحلله لمن لم يسغب

فإذا همُ رأوا الرغيف تطربـــــــــــوا*** طرب الصيام إلى أذان المغرب

 

ومنه جعل ثواب الصوم عملة صعبة تعطيها الأجواد لمن سألهم يوم القيامة قال الشاعر:

ولو جاءه يوم القيامة سائل***تعرى له عن صومه وصلاته

ومنه قول المتنبي:

ولو يممتهم في الحشر تجدو***لأعطوك الذي صلوا وصاموا

 

ومن هذا الباب قول أبي إسحاق الصابي يعيب على من يصوم عن الطعام فقط ويقترف الذنوب والآثام:

يا ذا الذي صام عن الطعم***ليتك قد صمت عن الظلم

هل ينفع الصوم امرئا ظالما***أحشاؤه ملأى من الإثم

 

وفي نفس السياق يقول أحد شعراء الأندلس معرضا بمن لا يحترمون قدسية شهر الصوم:

إذا لم يكن في الأذن مني تصــــامم***وفي مقلتي غض وفي مقولي صمت

فحظي إذن من صومي الجوع والظما***وإن قــلت أني صمت يوما فما صمت

 

ويمكن أن يدرج في هذا الباب ما نسبوه إلى أحد المحمقين أنه أنشد في حفل تأبيني لخليفة توفي وتهنئة لخليفة تولى مكانه قوله:

مات الخليفة أيها الثقلان***فكأنني أفطرت في رمضان

 

أيها السادة الكرام هذا ما جاءت به الشبكة في هذا الموضوع الذي نعتبر أنه ما زال بحاجة إلى الحرث والتقليب والتشذيب ونرجو أن نكون قد ساهمنا في هذا الحديث في بعض ما هنالك ونلتمس العذر عن التقصير.

وقبل الختام أنتهز هذه السانحة لأنشدكم أبياتا سبق أن قلتها داخل هذا المبنى في إحدى التظاهرات الثقافية لبيت الشعر فما أراها إذ ذاك بلغت محلها فاسمحوا لي بإنشادها مرة أخرى فقد تنجح الثانية ما لا تنجح الأولى:

 

دبج الشعر واتله في البيوت***وتمتـــع بسحره الملكوتي

فبه للآذان أطرب لحـــــــــن***وبـــــــه للقلوب أطيب قوت

وهموم الإحباط فيه شـــفاء***مــن عقابيل همها البيوتي

بيته بيت رفعة وشمـــــــوخ***إنه في البيوت أقوى البيوت

وافر الظل كامل الدفء والنو***ر جميل الأسما جميل النعوت

 

أيد الله من بــــــــــــناه وآتا***ه من النصر خير ما هو موت

وجزاه عن أمة الضاد سعيا***ليـــس والله عنه بالمسكوت

وعليه منا سلام مـــــــدام*** وتحـــــايا كالمسك والياقوت

 

وأشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

 

 

اترك رد