الرئيسية / الاخبار / قراءة في أبعاد التعبير ديدي نجيب

قراءة في أبعاد التعبير ديدي نجيب

تصبح بعد الموضوعات أكثر إلحاحا في أذهاننا من بعضها تبعا لجملة من الأبعاد والأسباب تغيب عنا حين الكتابة ونجهلها اثناء التفكير، ومن تلك الموضوعات الملحة موضوع شخصية الانسان وعلاقتها بقدراته الابداعية وأنماط التعبير التي يستجيب بها لمختلف الاضطرارات.

فإذا كان الفن صورة تنقل ما في نفس الانسان من مشاعر بأسلوب جمالي منتقى؛حيث تأخذ أقصر طريق نحو القلب والذوق، وما يهمنا هنا هو محاولة لرسم ملامح شخصية الانسان الذي يلجأ إلى الفن عندما يريد أن يعبر عما في ضميره، فيسلك طريقا فنية تأخذ شكلا تعبيريا بعد حين من تصورها في الذهن وقبل أن تخرج لوحة قيمة يحتضنها الجمال وتحفها السعادة، ورغم أنه لا اختيار للانسان في القالب الفني الذي يخرج من خلاله تدفقه الشعوري، إلا أنه في الغالب ما يجد في نفسه قابلية للنمط التعبيري الذي يحتل ذاته وذوقه أكثر.

فماهي دوافع الابداع ؟

هل الابداع قصور طبيعي في نقل الشعور أم تجاوز لحدود التلقي بين الإنسان والانسان؟

هل لشخصية الانسان دور في طبيعة تعبيره ؟

أم أن التعبير بالفن هو وراثة وقابلية تولد من واقع الانسان وتجاربه الفردية؟

أسئلة من بين أخرى لا نريد الاجابة عليها بقدرما نريد أن ندخلها حيز الواقعية فهي احتمالات قد تكون ولذلك سنقتصر هنا على مناقشة هذه الأسئلة بالتوالي على أن نخصص لكل سؤال ورقة خاصة به، ونختصر في هذه على دوافع الابداع..متى نتجاوز التعبير ؟ .
parler

 

يولد الابداع عندما تصطدم نفس الانسان ببشريته حين يتجزء وجود الانسان إلى نصفين نصف يمثله ونصف يحل محل الآخر، وهو مضطر للاستجابة لنصفيه لقوة حضورهما معا حتى إنه ليمسك بيده كلا الوجودين ويعرف تمام المعرفة مصدر المعاني والصور التي تتشكل في خلده، وكلما غلب معجمه الذاتي على المعاني المتشكلة عند الاستجابة كلما زادت قيمة استجابته ووصفت بالابداع وأصبحت تجربة شخصية تمثل صاحبها وتعينه على ما يعاني من اضطرارات طبيعية، وكلما غلب عليه وجود الآخر واستبد على شعوره فإنه يصاب بفشل شعوري ويخطئ طريق سعادة كانت ستنقله من غياهب الجهل إلى أفق الذات وعندها يتضاعف عليه ما كان يثقل كاهل صمته.

وهنا نتذكر الطرح الذي وضعه الطبيب النمساوي سجموند افرويد في دراسته للفن وعلاقته بالشخصية حيث “درس افرويد الانسان في الفنان ولم يدرس الفنان في الانسان” واختصر الطريق على نفسه، ولم يبتعد عن النقد وترك للنقاد مجالا واسعا للأخذ والرد والتجاذب.

حيث نلاحظ أن هناك فوارق جوهرية بين المعبرين ففحين يلجأ بعضنا للرسم كوسيلة لنشر مشاعره وإبراز تجاربه الشخصية، وتظهر شخصيته في الرسم أكثر منها في الكتابة وأكثر منها في النحت، نجد من يملك ناصية اللغة لكنه لا يوفق في كتابة إنشائية تقبلها النفس ولا يتقن إنشاء شعر متزن يتوفر على شروط الشعر المألوفة في العرف الأدبي، فليس علم اللغة هو ما يرغم الانسان على التعبير والتألق بالأدب والتفوق في فن الكلمة وليست دقة الخط ولا جماليته هي أساس التعبير بالرسم، فهناك دوافع داخل الشخصية الانسان تتوزعها القابلية والذوق والتأهيل ومن خلال النظر في تركيب شخصية الانسان يتبين مساره التعبيري .

ولد الانسان كائنا طبيعيا من أرقى الكائنات الحية على الاطلاق وذلك بفضل اللغة الطبيعية التي وهبه الله، فبفضل اللغة أصبح الانسان الكائن المميز في الكون واستطاع أن يسخر العالم لخدمة عيشه ورغباته ومآربه الخاصة، ورغم شكل الانسان الجميل وما يحمل من أجهزة وأنظمة خارقة للعادة والمألوف وتتجاوز التصورأحيانا إلا أن لغته هي وحدها ما يجعله إنسانا بحق، فحين ولد الانسان ولاحظ علاقته ببني جلدته، وجد اللغة هي الحيز الوجودي الذي يحمعه بباقي ذرات العالم، أدرك ضرورة وجودهم في حياته فأصبح التواصل بينهم سرا من أسرار التآلف والعيش، ثم أرتقى التعبير بين بني الانسان إلى عدة مستويات بدأت من محاكاة الطبيعة حين أصبح الانسان يحسن تقليد أصوات الطبيعة فنطق اللغة وتجاوز ذهنه الكلام فأنشأ يبني خيالات في تصوره عما يشعر به تجاه الكون وعما يجهل وعما يتخيل، ولما كانت اللغة والتعبير للآخر ليس للناطق أصبحت مراعاة حاجة المستمع غاية عند الانسان الناطق من هنا ولد الابداع كضرورة ملحة لتبليغ ما يفضل عن اللغة من معان أرسخ وأبلغ أن تؤدى “بالتذاوت” أو بالأنسنة” أو بوجود الانسان وشعوره بمخلوق من نفس الفصيلة الحوانية، من أن تؤدى بأصوات تحجب المعاني قيمتها الشعورية عن الغاية المقصودة منها.

وهنا تبرز القدرات التعبيرية للانسان فيلجأ إلى إبراز شعوره مستحضرا الآخر ومألوف جمهوره وحتى أنه لا يتجاوز الحدود الأخلاقية التي يضعها جمهوره لشخصيته في المجتمع.

ديدي نجيب

تعليق واحد

  1. مقال رائع وعميق استطعت من خلاله أن تأخذ مسافة من ذاتك واقتنصت دور الممثل لتصف ظاهرة أنت في وصفك إياها وفي الآن تفسه تمارسها. بارك الله فيه.

اترك رد