الرئيسية / سلسلة مقالات الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف / الشمائل النبوية : نبراس الحياة.. الأستاذ محمدفال بن عبداللطيف

الشمائل النبوية : نبراس الحياة.. الأستاذ محمدفال بن عبداللطيف

الشمائل النبوية : نبراس الحياة..

محاضرة ألقاها الأستاذ محمد فال ولد عبد اللطيف في المسجد الجامع عشية يوم الأربعاء 14 نوفمبر 2018 في نطاق الندوة العلمية التي نظمها مركز الرشاد لترقية الثقافة و الديمقراطية و الحكامة الرشيدة في موريتانيا بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف 1440 هجرية:

الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه وعبده وبعد فأشكر من كلفوني بإعداد محاضرة حول الشمائل النبوية على حسن ظنهم بي أن جشموني التطرق لموضوع كهذا: موضوع الشمائل النبوية.
موضوع الشمائل النبوية بحر طويل عريض عميق والكلام عليه لابد أن يكون طويلا عريضا عميقا على أن كل ما يقال فيه لا يعدو أن يكون كنقرة عصفور موسى والخضر الواردة في الصحيح.
فلهم الشكر ولي العذر إن لم يكن ما سأقدمه من بضاعة لا يرقى إلى المستوى المطلوب فقد أطلب في هذا الموضوع ما لا يجيئني ويجيئني ما لا أطلبه مما يرضيني كما قال الأصمعي ولكن لابد من النزول على رغبة هذه المؤسسة، المركز الذي يرأسه الأستاذ والأخ بدن، والتي لها يد بيضاء في خدمة الأهداف الشريفة ثم للموسم الشريف (شهر المولد النبوي الشريف) أثره في استثارة ما كان راقدا وإدرار ما كان بكيئا وخلاصة القول أني لست بسريع الخطو ولكن أمامي صبب يسهل الولوج إلى الموضوع الذي هو في الحقيقة قمة القمم والمعول في ذلك كله هو على الله تعالى على حسن عونه وتوفيقه.
ولقد ارتأينا بعد كثير من التروي أن نتعرض لهذا الموضوع بالتطفل على بعض الجوانب التي له بها صلة والغرض الأساسي أن يكتب اسمنا في هذا السجل سجل الأبرار إن شاء الله.
إن الكلام على محاسن أخلاقه وخلقه عليه الصلاة والسلام (الشمائل النبوية) حديث لا يمل على التكرار ولكننا لم نعتمد تلك المقاربة التي يعتمدها كثير ممن يتحدث عن هذا الموضوع الشريف إذ غالبا ما يقتصرون على سرد الصفات والأخلاق الشريفة وربما جاؤوا بشواهدها من الحديث بل ارتأينا أن نتبنى مقاربة أخرى، ربما لا تخلو من قيمة مضافة فنتعرض للموضوع من خلال المحاور التالية:
1 ما المقصود بالشمائل النبوية؟
2 ما هي مصادرها؟
3 موضوعها
4 مكانتها في السنة النبوية
5 الشمائل النبوية في الموروث الموريتاني

المبحث الأول: ما المقصود بالشمائل النبوية؟

الشمائل جمع شمال ككتاب، وهي الخلق والطبع والسجية التي جبل عليها الإنسان، ورجل شمول مرضي الأخلاق، يقال فلان حسن الشمائل وهذا من شمائل الكرام وقد خصصها العرف الاستعمالي عند الاطلاق بشمائل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسع في معناها فأصبحت تطلق على ما يتعلق بشخصه الكريم فدخل فيها وصف ذاته الشريفة وتبيين عاداته وبعض عباداته وهو ما يعبر عنه بهديه عليه الصلاة والسلام.

المبحث الثاني: ما هي مصادر الشمائل؟

مصادر الشمائل النبوية هي: الكتاب والسنة وما ورد في الكتب القديمة وما تواتر عند التابعين عن الصحابة رضوان الله عليهم.
1 الكتاب: ورد في القرآن الكريم صراحة وصفه عليه الصلاة والسلام ببعض الأوصاف الكريمة كالرحمة ولين الجانب والحياء والقوة والأمانة قال تعالى: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك)) وفي القرآن أيضا: ((محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)) وفيه أيضا: ((وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا)) والقول الجامع لكل ذلك قوله تعالى ((وإنك لعلى خلق عظيم)) قال العلماء: وإنما عبر بالعظيم دون الحسن أو الكريم لأن العظمة تقتضي حصول جميع أوجه الكمال بحيث ينتقم ساعة الانتقام ويغضب ساعة الغضب ويعفو ساعة العفو بحيث تتنزل كل صفة في مكانها المناسب مما تقتضيه الحكمة فليس صلى الله عليه وسلم بالضعيف ولا المهين عند وقت القوة ولا الغليظ الجافي عند وقت الرفق واللين. ومنه أيضا قول عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن فكل ما ورد في القرآن من صفة جميلة كالصبر والإعراض عن الجاهلين والعفو عن المخطئين وبذل المال للسائلين قد اتصف به صلى الله عليه وسلم وهذا لا يحتاج إلى مثال.
2 السنة: والمراد بها ما ورد عن أصحابه الذين رأوه وشاهدوه فرووا لنا أوصافه البدنية والخلقية فهناك من اشتهر بوصفه صفة مستفيضة ومنهم دون ذلك وهنالك شذرات من وصفه مبثوثة في طي أحاديث مروية عمن لم يشتهر بأنه من وصافه قد اعتنى الحفاظ بجمعها.
فلا بد هنا أن نبين فرقا بينما روي من خلقه بضم الخاء وما روي من وصف خلقه بفتح الخاء فالأول دائما ما يكون متواترا تواترا معنويا عن الصحابة وخاصة كبار السن الذين عاشروه وأدركوا من أخلاقه ما لا يدركه غيرهم وأما ما يتعلق بخَلقه فلم يرو منه الكثير عنهم لشدة هيبتهم له فذلك مانع من استيفاء وصفه وسبب من سبب اختلافهم فيه.
وقد جمع القاضي عياض قائمة لمن وصفه وزاد عليها القسطلاني في المواهب اللدنية فبلغ ذلك ما يقترب أو ينيف على الثلاثين منهم هند بن أبي هالة أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وأم معبد الخزاعية وأم هانئ وغيرهم.
وهنا لابد من ذكر ملاحظتين: الأولى أن من وصفوا خلقه بفتح الخاء كانوا من أصاغر الصحابة في الغالب لأن كبار الصحابة كانوا لا يملئون منه أبصارهم هيبة له مثل عمرو بن العاص على قوة شخصيته إذ صرح أنه لم يملأ منه قط عينه منذ أسلم هيبة له.
الملاحظة الثانية: أنه ما من حديث شريف ولا خبر إلا ويمكن أن يورد شاهدا على خلق من أخلاقه الكريمة عليه الصلاة والسلام سواء تعلق بالعادات أو العبادات وقد تفطن لهذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله فجاء كتابه زاد المعاد خليطا من الفقه والشمائل والرقائق.
3. ما ورد في الكتب القديمة ونعني به هنا ما تلقاه الصحابة ومن بعدهم من مسلمي أهل الكتاب كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص في وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه لم يكن صخابا في الأسواق والحديث مشهور.
4. ما تواتر عند التابعين من كون بعض الأشخاص من التابعين يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه ذكروا منهم كابس بن ربيعة من بني سامة بن لؤي كان أنس إذا رآه بكى ومنه عبد الله بن أبي طلحة الخولاني أمره عمر أن لا يمشي إلا مقنعا ومنهم أفراد من آل البيت النبوي تواتر فيهم شبهه عليه الصلاة والسلام ولقب بعضهم لذلك بالشبيه كما ذكر الزرقاني في شرح المواهب اللدنية.

المبحث الثالث: موضوع الشمائل

تحتوي الشمائل على ركنين:
1 أخلاقه عليه الصلاة والسلام وقد أفردها المؤلفون بالتبويب فقد عقد القاضي عياض في كتابه الشفا في كل صفة من صفاته عليه الصلاة والسلام فصلا خاصا به واستشهد عليه بأحاديث وآثار خرجها السيوطي فيما بعد في كتاب مستقل.
ومن تتبع النصوص الواردة في ذلك يرى أنهم قد جمعوا ما يربو على عشرين خلقا حميدا بلغ فيها صلى الله عليه وسلم الغاية العظمى وهي:
ـ الحلم، العلم، الكرم، السخاء، العفو، التواضع، الحياء، الشجاعة، الصبر العدل، الإنصاف، صلة الرحم، الإيثار، الرفق، الحكمة، الذكاء، الاعتدال، البِشر، الفطنة، السماحة، الرحمة، الأمانة، الوفاء، الوقار، الهيبة..الخ
كما أفرد الإمام الترمذي في خمسة وخمسين بابا كثيرا من الأحاديث المتعلقة بشخصيته الشريفة ولاسيما في عاداته وأخلاقه بدء بوصف جسده الشريف وانتهاء بوفاته ورؤيته في المنام ونحو ذلك.
وفي كتاب الجامع الصغير للسيوطي باب خاص يسمى بالشمائل كرسه للأحاديث التي تبتدؤ بقوله كان صلى الله عليه وسلم.
ولعل من أبلغ ما ورد في سلوكه العام عليه الصلاة والسلام الحديث الذي رواه الحسين بن علي عن هند بن أبي هالة وأخرجه الترمذي في شمائله: كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليس له راحة ولا يتكلم في غير حاجة طويل السكوت…ويتكلم بجوامع الكلم، كلامه فصل لا فضول ولا تقصير دمث ليس بالجافي ولا المهين يحفظ النعمة وإن دقت ولا يذم منها ذواقا ولا يمدحه ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها وإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها…وإذا غضب أعرض وأشاح وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم ويفتر عن مثل حب الغمام…كان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزء لله عز وجل وجزء لأهله وجزء لنفسه ثم جزء جزئه بينه وبين الناس ويرد ذلك على العامة والخاصة ولا يدخر عنهم شيئا فكان في سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين…
كان صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم ولا يفرقهم…ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس ويحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويهونه معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا لكل حال عنده عتاد لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه…كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا فحاش ولا عياب ولا مزاح يتغافل عما لا يشتهي…ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لايعنيه وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدا ولا يعيره ولا يطلب عورته ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه إذا تكلم أطرق جلسائه كأن على رؤوسهم الطير وإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده الحديث ومن تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم. يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون منه يصبر للغريب على الجفوة…كان سكوته على أربع على الحلم وعلى الحذر والتقدير والتفكر إلى آخر الحديث.
2 ما يتعلق ببدنه الشريف مخصص للأحاديث التي فيها وصف أعضائه الشريفة وبدنه الكريم فمن تلك الأحاديث ما يصف بدنه جملة ثم يصفه عضوا عضوا كوصفه بأنه ربعة ومقصد وأنه كالبدر وأنه مهيب إلى آخر ذلك…ثم يصف بعض أعضائه كوجهه الشريف وشعره ويديه ورجليه وأنفه وعينيه الشريفتين وقد جمع هذه الأوصاف الشيخ زروق في قصيدته المشهورة التي مطلعها:
لقد كان خير الخلق أبهر طلعة
من البدر بل من شمسه هو ألهب
وهي مشهورة نحو عشرين بيتا شرحها من القدماء النابغة الغلاوي رحمه الله ومن المعاصرين الأستاذ محمد الأزعر بن حامد أطال الله بقاءه.
وتعتمد هذه القصيدة أساسا على حديث هند بن أبي هالة الذي رواه الحسن بن علي رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذي في شمائله ولابد من أن نذكر هنا هذا الحديث تبركا ومثالا على ما ذكرنا.
قال الحسن سألت خالي هند بن أبي هالة وكان وصافا عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر أطول من المربوع وأقصر من المشذب عظيم الهامة رجيل الشعر إذا انفرقت عقيقته فرقها وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين أزج الحواجب سوابغ من غير قرن بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين له نور يحسبه من لم يتأمله أشم كث اللحية سهل الخدين ضليع الفم أشنب مفلج الأسنان دقيق المسربة كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن والصدر عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة سبط القصب شثن الكفين والقدمين سائل الأطراف، خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعا يخطو تكفأ ويمشي هونا ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب وإذا التفت التفت جميعا خافض الطرف نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام.
ومن أشهر من وصف جسده الكريم أم معبد الخزاعية ولوصفها أهمية خاصة فقد رأيته وهي لا تعلم إذ ذاك أنه نبي وشاهدت من جماله ما يدركه النساء البدويات الدقيقات الملاحظة فحاولت التعبير عن ذلك بألفاظ مختارة فصيحة تدل على إعجابها وانبهارها بجماله وحسن صورته وعذوبة صوته وحسن صمته وسَمته وتوقير القوم لهووصفته بأنه أنضر الثلاثة وأنه محفود محشود لا عابس ولا مفند وقد نظم الحافظ العراقي وصفها له في ألفيته في السيرة.
وقد أجمعوا على أن هذه الأوصاف كلها تثبت جمال صورته عليه الصلاة والسلام وتناسقها وملاحتها وجاذبيتها ولا سيما حسب معايير الجمال في المجتمع العربي ولذلك قالت الأعرابية لما رأته صلى الله عليه وسلم: أن وجهه ليس بوجه كذاب.
وهنا يقع سؤال كيف لم تتغن النساء بجماله ويخلعن العذار فيه وقد أجاب عن ذلك الشيخ الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين بأن جماله عليه الصلاة والسلام قد ستره الله بالجلال كالشمس لا يستطيع أحد أن يتأمل فيها إذا قرب منها ولذا لم ترو الشمائل الشريفة إلا عن شباب الصحابة.وأما جمال يوسف فهو ظاهر لم يستتر بجلال كالبدر فحينئذ يُتأمل يصفه الواصف دون أن يعجز عن استيعاب محاسنه قال: ومن هذا المعنى قول ابن الفارض:
لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة في وجهه نسي الجمال اليوسفي
وإذا كان التحلي بالأخلاق النبوية هو معنى الأسوة الحسنة التي ناط الله بها الفلاح في الدنيا والآخرة وأمرنا الله بها حيث يقول جل من قائل: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة))، فإن المقصود بحفظ وصف جسده الكريم هو التعلق به كما عبر عن ذلك الحسن بن علي رضي الله عنه وفيه أيضا فوائد أخرى لا تحصر لعل من أهمها بعد التبرك بها والتلذذ بتكريرها أن ترسخ الصفة الشريفة في الذهن والقلب فتنظر كالصورة الشمسية ولا يخفى ما في ذلك من دواعي الخير والبركة لاسيما وقد ذهب بعض العلماء – وإن كان قوله غير مسلم – أن الشرط في تحقق رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام أن تكون تلك الصورة المرئية في المنام موافقة لما سطره العلماء في باب الشمائل النبوية.

المبحث الرابع: مكانة الشمائل النبوية في السنة

تعتبر الشمائل النبوية أحد فروع السيرة النبوية إلى جنب المغازي والخصائص والمعجزات وتدخل في تعريف السنة فلا شك أن أفعاله عليه الصلاة والسلام تشارك أقواله في حكم الإسناد ولا خلاف في الاستدلال بها على الأحكام الشرعية وجوبا وندبا وإباحة.
ذلك أن العلماء قسموا أفعاله عليه الصلاة والسلام إلى سبعة أقسام:
الأول: ما فعله امتثالا لأمر كالحج والصلاة فهو مساو فيه لأمته
الثاني: ما وقع منه جبلة مما لا يخلو عنه البشر كالأكل والشرب والحركة والسكون والسفر والإقامة والقيلولة في منزل وتحت شجرة ومنه تتبعه الدباء وأكله القثاء بالرطب ومحبة الحلو البارد وسائر ما ورد في طعامه ولباسه مما لا يظهر فيه قصد قربة فهو سواء فيه وأمته ولا يستحب اتباعه فيه إلا من باب التأسي العام والتبرك وتذكر المحبوب ومحبة آثاره ولعمري ما يختار الله لحبيبه إلا ما هو خير وإلى الاستحباب مطلقا ذهب ابن عمر رضي الله عنه فكان يتحرى آثاره عليه الصلاة والسلام والفقهاء يستحبون بعضه، كاتباع منازل حجه ومقدار وضوئه وغسله، نعم ترك هذا النوع استنكافا لا يجوز وفيه سوء أدب.
الثالث: ما ثبت أنه من خصائصه كزيادة الزوجات والوصال ووجوب قيام الليل وهذا فيه تفصيل فما وجب عليه دون أمته يجوز التشبه به فيه وكذلك المحرم كالأكل من الزكاة بخلاف ما أبيح له عليه الصلاة والسلام دوننا فلا يجوز لنا التشبه به فيه.
الرابع: ما فعله بيانا لمجمل وتقييدا لمطلق وتخصيصا لعام في القرآن كتعيين أوقات الصلاة وعدد الركعات فهذا تابع للمبين أو المقيد أو المخصص من وجوب وندب.
الخامس: ما صدره استقلالا وليس امتثالا لأمر ورد في القرآن ولا بيانا ولا خصوصية ولا جبلة مما علم وجوبه أو ندبه من خارج فهذا متعبد به حسب ما علم من وجوبه أو ندبه.
السادس: ما صدر منه استقلالا بالقيود الأربعة المذكورة ولم يعلم وجوبه ولا ندبه وظهر فيه قصد القربة فهو متردد بين الوجوب والندب والظاهر الندب ويعتقد فيه دلالته على القدر المشترك بينهما.
السابع: ما صدر منه استقلالا بالقيود الأربعة المذكورة ولم يعلم وجوبه ولا ندبه ولم يظهر فيه قصد القربة فإن كان من أفعال الجبلة فهو مباح وإن تردد بين العبادة والعادة فهو متردد بين الإباحة والندب والمتحقق فيه القدر المشترك بينهما وهو رفع الحرج كنزوله بالمحصب ويستحب في كل حال التأسي به كما قدمنا في القسم الثاني، قال المازري: التأسي به أبرك.
ثم اعلموا أن ما فعله صلى الله عليه وسلم للبيان واجب عليه من تلك الحيثية ولذلك قد يكون الشيء مكروها بالنسبة لنا وواجبا أو مندوبا بالنسبة له عليه الصلاة والسلام وبذا تعلمون أن أفعاله صلى الله عليه وسلم كلها عبادة.

المبحث الخامس: الشمائل النبوية في الموروث الشنقيطي

الذي نجزم به أن علم الشمائل النبوية دخل هذه البلاد بدخول الإسلام إذ ليس من المعقول أن يوجد إسلام منفصلا عن مستوى ما من علم الشمائل النبوية إذ لها ذكر في القرآن العظيم وفي الكتب الصحاح كالموطأ وصحيح البخاري.
ولا شك أن هذا العلم قد يكون تبلور عند أهل هذه البلاد بقدوم تلاميذ القاضي عياض ومعهم كتاب الشفا وفيه نبذة صالحة من الشمائل النبوية وكان من عادة سكان المدن القديمة مطالعته في المسجد في أشهر معلومة من السنة، ثم بعد ذلك عرفوا شمائل الترمذي وأشهر شروحها كشرح محمد جسوس الفاسي وعلي بن سلطان القاري والبيجوري وعبد الرؤوف المناوي والشهاب ابن حجر نزيل مكة.
وقد ألف الشناقطة في الشمائل مؤلفات عدة ما بين منثور ومنظوم ونصوص وشروح وبرزت في مدائحهم النبوية كقصائد اليدالي ومولود بن أحمد الجواد وابن رازكه العلوي ولعل من أبرزها ما أودعه العلامة اليدالي في كتابه حلة السيراء ونظم الأخلاق للمرابط محمذن فال بن متالي مع توشيح لزين بن اجمد رحمهما الله وما جمعه الشيخ محمد فال ببها في كتابه المواهب الأحدية في ذكر الشمائل الأحمدية وهو مطبوع مع شرح للعبد الفقير.
ولعل من أطرف ما ألف في هذا الميدان ورقات في وصف جسده الشريف مكتوبة باللغة الحسانية منسوبة للشيخ ببها كذلك رحمه الله.
هذا وقد سبق لي أن ثبتا بما عثرت عليه من المؤلفات الشنقيطية في هذا الميدان بلغت نحو الأربعين مؤلفا وقد ضاع علي في المكتبات الأهلية في الوقت الراهن.

والسلام عليكم ورحمة الله ببركته.

رحم الله السلف و بارك في الخلف.

منقول من صفحة الأستاذ محمدن بن سيد “بدن” على الفيسبوك

اترك رد