الرئيسية / فيسبوكيات / رؤيا الشيخ محمدٍ بنِ أَبٌ … الجزء الثالث

رؤيا الشيخ محمدٍ بنِ أَبٌ … الجزء الثالث

بعد انتهاء أيام التعزية، وسُلُوِّ الأهل النسبيِّ وهدوء العيال الحذر، قرر السيد الدَّاهْ بن وَدَّادْ الذهاب للتزود ببعض المستلزمات التموينية الضرورية، كان تجار “انْيِفْرَارْ” هم الأقرب إليه جغرافيًّا، طغى على ذهنه – أثناء الطريق- التفكر في ظروف وفاة ابنة عمه المفاجئة، تواردت إليه ذكريات كثيرة مختلفة؛ تفكَّر في ما حباها الله به من العقل والرزانة والأخلاق الحميدة، تذكَّر أيضًا قرارها الصارم المتعلق بالتفرغ – بعد انفصالها عن ابن عمها- لتربية ابنيها محمد والمختار، لقد حرصت على تربيتهما وتدريسهما والاهتمام بشؤونهما ، كانت تقيةً نقيةً ،برةً بوالدتها محترمة في عشيرها…
انتظمت تلك الصفات الخُلقية والخَلقية في ذهن الأديب، على شكل مرثيةٍ جميلةٍ ، صادقة العاطفة، ساعده حسه المرهف، وهدوء المكان، وصفاء الطبيعة واتساعها، في إجادة سبكها وتناسق ألفاظها.. قرر أن ينزل عن ظهر بعيره لكي يكتبها.. فتش في جيبه، فوجد ورقة سجل عليها لائحة المستلزمات التي سيشتريها، فقيدها بسرعة على ظهرها، وواصل طريقه….

يَــــلاَّلِ مَــــذَ زِكْـــلِتْ بَعْدْ *** الــدِّنْــيَ هَاذَ يـوْمْ الــحَــدْ
ءُ يَــــلاَّلِ مَــــذَ مُـــفَـكَّـــدْ *** عَاكِـبْ مِنَـــةٌ مِــنْ لِحْسَانْ
وِ البَشَاشَ وِ احْـكِيمْ العَهْدْ *** وِالبُـــرُورْ ءُ مِــتْنْ الإِيـمَانْ 
ءُ لاَ تَــسْمَعْ مِـنْهَ شَاكِ حَدْ *** قَــــرِيبْ ءُ بَعــــِيدْ ءُ جِرَانْ
تَــغْفَرْ يَا اللَهْ الكِـــلْ الْعَمْدْ *** وِالسَّـــيِّئَاتْ ابْـشِ مَا كَانْ
وَعْطِــيهَ فِـــلْجَّــنَّ مَــقْعَدْ *** عَـــــالِ يَـــلِـلاَهْ الــسُّبْحَانْ 
وِمْــنْ أَشْبـــَهْ أُمِّةْ مُـحَمَّدْ *** تَجــــْعَــلْهَ فِــلْــجَــنَّ مَكَانْ
وِخْـــبَرْهَ مَا يَشْطَنْ عَلاَّهْ *** مُــــلاَنَ لاَطِــــفْ بِــــيهَ كَانْ
وَلاَّ مَــزَالِــــتْ فـــَيْدْ اللَّهْ *** لاَطِـــفْ بِـــيهَ وِعْـــلِيهَ حَانْ

رجع الشيخ محمدٌ بن أبٌ إلى المنزل بعدما أدَّى صلاة الظهر في الجماعة، دخل الغرفة الغربية من البيت؛ – لأنها الأنسب له وقت القيلولة-، تناول الجزء الثاني من المدونة وفتحه وبدأ المطالعة – كانت من كتبه المفضلة-  بعد برهة شعر بالكرى يدبُّ بين جفونه، ضمَّ الكتاب، ووضع نظاراته جانباً، وراح في سُبات عميق…
استيقظ على أصوات تلامذة يكررون ما في “ألواحهم” بصوت مرتفع، طلب من أحدهم أن يحضر له ظرفا من أقرب حانوت… أخذ ورقة بيضاء من بطن الكتاب، وبدأ يُدَوِّنُ فيها على عجل…بعدما تجهز لصلاة العصر أدخل تلك الورقة في الظرف، ثم جعله في جيبه وسار باتجاه المسجد.
احتسى الدَّاهْ بن وَدَّادْ الكأس الثالثة من الشاي؛ الذي أعده له معاون التاجر أحمد سالم بن عبدالله، ثم دفع ثمن البضاعة، وهمَّ بالخروج ، كان الجمل باركًا تحت ظل الشجرة الواقعة غرب الحانوت، وقد حُزمت الأمتعة على ظهره، فجأةً ناوله التاجر ظرفا قائلا : تلك رسالة أمرني الشيخ محمدٌ بن أبٌ أن أسلمها إليك إذا ما التقيت بك.. فتح الورقة المطوية وبدأ يقرأ محتواها بسرعة.. يقول الدَّاهْ بن ودَّادْ: (… كانت عبارة عن رسالة موجهة إليَّ، بدأت باعتذار عن عدم قدومه للسلام علينا يوم الأحد الماضي، ثم أضاف أنه بينما كان نائما – وقت وجودنا مع الشيخ يعقوب– رأى في ما يرى النائم؛ امرأة تأتى إليه فسألها – بعد السلام عليها- عن هويتها؟ فقالت له : أنا امرأة من السَّمَاليل ، قُبضت روحي البارحة، ودُفن جسمي قبل لحظات؛ في “َصَالحين الشَّاشْرَ”، أريدك أن تخبر أهلي ببعض الأمور المهمة عندي؛ أولها أنني وجدت قبري فسيحًا مريحًا فعرفت أن الدنيا كانت لي بمثابة حبسٍ، وثانيها أن تقول لأخي الأكبر محمد و أمي عيشة، أنني أوصيهما خيرا بالطفلين، ثم ذكرت له بعض التفاصيل الدقيقة ؛ المتعلقة بمتاعها الموجود في خيمتها ، طالبة منه أن يذكرها لوالدتها لكي تنفذها على عجل…)

الشيخ محمدٌ بن أبٌ رحمه الله

لقد نسي محدثي تلك التفاصيل المهمة المتعلقة بمتاع الفقيدة، نظرا لطول عهده بها، فالقصة جرت أحداثها منتصف شهر اكتوبر سنة 1996. سارع في الرجوع إلى “العَزيبِ” وهو يفكر في أمر هؤلاء القوم: شيخ يستقبلهم بأنواع الإكرام ولا علم له بقدومهم  فمن أنبأه؟ شيخ آخر يكتب له رسالة قادمة من البرزخ تحوى معلومات دقيقة صحيحة، حقًا إن هذا لشيء عُجاب…

بعد وصوله بدأ بخيمة عمه، فبشرهم وقص عليهم تلك الرؤيا الصالحة، ثم سلم الرسالة للوالدة عيشة، فصكًّتْ وجهها مستغربةً من ورود اسمها وابنها محمد فيها، ثم قامت إلى متاع ابنتها ونثرته جميعًا، وقارنت بينه مع ما جاء في الرسالة، فوجدتهما متطابقين تمامًا، فعرفت أن الرؤيا كفلق الصبح .. فازدادت تعجبًا وتفكرًا ثم بدأت فورًا في تنفيذ وصية ابنتها.
بعد مرور سنة على هذه القصة العجيبة، والرؤيا الغريبة، كان صاحبنا يسير ضحى في منطقة “اكْلِينِكْ” التجارية، فقرر أن يمرَّ على حانوت صديق له قد طال عهده به، ولمَّا دخل عليه، وجد معه الشيخ اليدالِ بن أبٌ، فبدأ بالسلام عليه بأدب واحترام وتقدير، وبعدما التقى بصديقه، خرج مواصلا طريقه.، لكن الشيخ سأل صاحب الحانوت قائلا: من الرجل الذي سلم علي آنفًا؟، فأجابه بأنه شريف من السماليل يدعى الدَّاهْ بن وَدَّادْ، فأمره أن يتبعه ويطلب منه الرجوع إليه، ففعل، فأعاد الشيخ السلام عليه متبششًا ومقدرًا، وبعدما سأله عن أحوال وأخبار أكابر عشيره، قال له:
(…لقد أخبرني الشيخ يعقوب بن عبد اللطيف، أثناء لقائي به السنة الماضية في “انْيِفْرَارْ” أن فاطمة الزهراء بضعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أمرته – في المنام- بالاستعداد لاستقبال وضيافة أبنائها الذين هم في طريقهم إليه، وكان ذلك في الليلة التي سبقت دفن منت حمزة في مقبرة انيفرار..)
انتهى.
—————
– “َصَالحين الشَّاشْرَ” مقبرة تقع على مقربة من الحي، كانت في الأصل مدفنا للصبية إلى أن دفن فيها – بوصية منه – الشيخ العلامة محمذ باب بن داداه الملقب امَّنِّ؛ سنة 1974 فتغير اسمها إلى “صالحين امَّنِّ”، ثم دفن معه بعد ذلك بعض أبنائه وأقاربه رحمهم الله.
– المصدر الأساسي لكل ما ورد في التدوينات الثلاث هو ما ذكره لي شاهد العيان السيد الدَّاهْ بنُ وَدَّادْ خريف 2016 ، أثناء سمرٍ معه في حانوته بانواكشوط.

اترك رد