مصدر كتاب “امروگْ الحرف” هي النصوص التي تركها الخلاسي السنغالي القس: دافيد بوالا ، والموجود أغلبها بأرشيف المكتبة الوطنية بباريس بعد أن آلت إليها بعض مقتنيات الجمعية الجغرافية الفرنسية التي كانت نصوص دافيد بوالا من ملكيتها.
كان دافيد بوالا، وهو بمدينة سينلوي السنغالية “اندر”، يبعث بجميع ما يتحصل عليه من وثائق، أو ما يكتبه من نصوص، أو ما يصله من رسائل عن موريتانيا وعن غيرها من مناطق إفريقيا الغربية، إلى الجمعية الجغرافية في باريس.
والجمعية الجغرافية (Société de Géographie) هيئة تأسست سنة 1821 وهي أقدم جمعية جغرافية في العالم، ومن أشهر أعضائها فرديناند دو لسيبس ( Ferdinand de Lesseps ) صاحب فكرة قناة السويس بمصر في القرن التاسع عشر. وكانت للجمعية الجغرافية مجلة شهرية ظهرت سنة 1822 وفيها الكثير من البحوث والإشارات التي تتعلق ببلادنا، وتعرف تلك المجلة باسم: نشرة الجمعية الجغرافية: Bulletin de la Société Géographie.
في 28 يونيو 1908 وبعد وفاة دافيد بوالا بسبع سنوات نشرت الجمعية الجغرافية جردا لمخطوطاته ومؤلفاته كان الحاكم الفرنسي بالسنغال بارون روجي (Baron Jacques-François Roger) قد أعده في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد ذكر ضمن ذلك الجرد نصا بعنوان: عادات وتقاليد بيضان السنغال ( Mœurs et coutumes des Maures du Sénégal ) وهو باللهجة الحسانية، وكان القس بوالا قد أهداه لبارون روجي لصالح الجمعية الجغرافية بتاريخ 23 يونيو 1843 كما هو مسطر بالفرنسية على الصفحة الأولى من المخطوط.
ونص “عادات وتقاليد بيضان السنغال” ليس سوى العنوان الفرنسي لكتاب “امروگْ الحرف”، الذي حرره مؤلف موريتاني في النصف الأول القرن التاسع عشر، ثم وصل فيما يبدو لدافيد بوالا، بل صار جزءا من المادة الخام التي كان يجمعها عن موريتانيا ويزود بها الجمعية الجغرافية بباريس.
من هو دافيد بوالا الذي اهتم بموريتانيا كثيرا؟
ولد دافيد بوالا في مدينة سينلوي “انْدَرْ” بالسنغال سنة 1814 لأب فرنسي وأم سنغالية لذلك يصفه مترجموه بالخِلاسي (وهو من يولد لأبوين من عرقين مختلفين). كانت سينلوي يومئذ تحت الاحتلال البريطاني، ففرنسا في تلك الأثناء تخوض الحروب النابوليونية العاصفة ضد الأمم الأوروبية وخصوصا بريطانيا. مات أبوه الفرنسي، الذي كان ضابطا في البحرية الفرنسية، مبكرا جدا فحرصت أمه السنغالية على ربطه بالمجتمع الفرنسي في اندر. في سنته الثالثة عشرة استفاد المراهق دافيد بوالا من منحة دراسية لمجموعة من أطفال اندر فتوجه إلى فرنسا حيث درس هنالك علوما عديدا من أبرزها التاريخ والرسم واللاهوت، وعاد من فرنسا نهاية ثلاثينيات القرن الثامن عشر. وفي سنة 1840، أصبح بوالا أول قس سنغالي في كنيسة اندر، كما عينه الوالي الفرنسية في السنغال بوي ويلوميز ( Bouët-Willaumez ) سنة 1843 رئيسا لمدارس التربية والتعليم بالسنغال.
اهتم هذا الخلاسي السنغالي بموريتانيا اهتماما خاصا، فكان يبحث عن أخبار الموريتانيين وعن عاداتهم وعن لغتهم ودينهم وتجارتهم وقبائلهم وأمرائهم، وقد جمع نصوصا عديدة عن بلادنا، كما نشر رسوما متنوعة عن بعض الشخصيات الموريتانية:
في عام 1853 نشر بوالا كتابه الشهير “ملامح سنغالية” (Esquisses sénégalaises)، وفي هذا الكتاب رسوم بعضها لموريتانيين، وتعتبر من أقدم الرسوم المعروفة والمتعلقة ببلادنا. كما أن له كتابا مخطوطا بعنوان: ملاحظات على لغة بيضان السنغال باللغة العربية، (Notes sur la langues des maures du Sénégal) ويعود تاريخ نسخه ليوليو 1943 كما ذكر بارون روجي في جرده لمؤلفات دافيد بوالا. وذكر البارون رجيه أيضا كتابه الآخر: أغاني ونصوص تاريخية باللغتين الحسانية والفرنسية (Chansons et documents historiques en Langues Maures et Français).
وقد عثرت على بعض الشعر الحساني في مخطوط دافيد بوالا الذي عنوانه: ملاحظات حول فوتا طورو (Notes de Fouta Toro) عبارة عن نصوص شعرية حسانية قيلت في “أشوار” موسيقية في بدايات القرن التاسع عشر، كما توجد بهذا النص رسالة تتعلق بإمارة البراكنة.
عاد دافيد بوالا إلى فرنسا وانتخب عضوا في الجمعية الجغرافية بباريس سنة 1853 وظل هنالك حتى توفي عام 1901.
ويعتبر هذا السنغالي أهم مصدر للمعلومات المتعلقة بموريتانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي كانت الإدارة الفرنسية والباحثون الفرنسيون يجمعونها عن بلادنا في ذلك التاريخ، ومن هنا تكمن أهمية دافيد بوالا بالنسبة للتاريخ الموريتاني.
كتاب “امروگْ الحرف”.. حول العنوان وحول المؤلف؟
عنوان هذا الكتاب الطريف هو: “امروگْ الْحَرْفْ” كما صرح بذلك مؤلفه في الصفحة 62 من المخطوط. وعبارة “امروگْ الحرف” من كنايات اللهجة الحسانية وتعني الخروج عن المألوف وعدم التقيد بالسَّنن المتعارف عليه. ولعل عبارة “امروگْ الحرف” أي “خروج الحرف” مأخوذة من الخط ومستقاة من الكتابة؛ فالحروف ينبغي أن تكون متراصة ومتساوقة لا ترى فيها نشازا ولا انحرافا فتأتي متناسبة في ما بينها ومتناسقة في سطورها، وبمجرد أن يأتي الحرف أكبر من غيره من الحروف، أو يكون أصغر من الحروف التي حوله يكون في ذلك خروجٌ على أسلوب الخط فيفقد النسق الكتابي جماليته ويضمحل تنظيمه. ومن هنا أطلقت عبارة “امروگْ الحرف” على الخروج على النسق، ثم انتقلت من حقل الكتابة والخط إلى الحقل الاجتماعي فصارت كناية عن الخروج على المألوف في الحياة العامة وفي السلوك الاجتماعي.
ومفهوم “امروگْ الحرف” في اللهجة الحسانية ليس مفهوما سلبيا كما يتبادر للذهن، فقد يعني التميز في الفضل والتفرد بالحسن؛ يقول محمذن ولد أحمد ولد العاقل أو ابنه بَبَّهَا رحمهم الله جميعا في أسرة الصلاح والبركة أهل صلاحي الشهيرة بالقبول والنصر:
لا تنكرِ الشفا لمن يستشفِي ۞ بآل صلاح بدورِ الكشفِ
قومٌ مروگ الحرفِ فيهم أُلْفِي ۞ وخيرُهُمْ أمرگهم للحرف
ولأن كتاب “امروگْ الحرف” الذي بين أيدينا تناول القصص الشعبية الحسانية، وقد أورد المؤلف في ثناياه بعض النصوص الشعرية الشعبية، كما استعرض بشكل تفصيلي الحوارات التي كانت تجري بين التجار الفرنسيين وبين بائعي العلك ومستصمغيه من الموريتانيين، وتعرض لوصف السكان الموريتانيين ذاكرا فضائلهم تارة ومثالبهم تارة أخرى، كما تعرض كذلك لوصف الفرنسيين ذاكرا فضائلهم مثالبهم أيضا، فضلا عن استعراضه أسماء الحيوانات وأسماء الغطاء النباتي وأسنان الإنسان وأنواع الخيل والبغال والحمير وسائر الأنعام… وكل ذلك وغيره باللهجة الحسانية، ولأن هذه المواضيع بعيدة كل البعد عن مواضيع التأليف عند الموريتانيين التي تركز تقليديا على العلوم الشرعية كالقرآن وعلومه والحديث ومصطلحه والفقه وأصوله وقواعده وعلى علوم اللغة العربية من نحو وصرف وغير ذلك… كل هذه الأسباب جعلت هذا التأليف متفردا في نمطه بعيدا عن المعهود من التآليف، ومن هنا اختار المؤلف لكتابه هذا عنوانا مناسبا وهو: “امروگْ الحرف”.
فمن المؤكد أن اختيار المؤلف للهجة الحسانية بدل العربية الفصحى، وتناوله مواضيع من الثقافة الشعبية المهملة بدل الثقافة العالمة الرفيعة جعلت مؤلفه خارجا عن المعهود بعيدا عن المألوف وبالتالي كانت عنونته له بـ”امروگْ الحرف” دقيقة.
هذا عن العنوان أما المؤلف فإنه لا يذكر اسمه ولا يسوق أي شيء يشير إلى ما يمكننا من معرفته، بل إنه يتعمد –في اعتقادي- أن لا يصدر عنه في كتابه أي شيء يمكن أن نتعرف من خلاله على هويته.
غير أن سياقات الكتاب وأسلوبه ولغته والمعالم والأعلام المذكورة فيه تجعل من السهل معرفة منطقة المؤلف وطبقته الاجتماعية ووظيفته في الحياة. فيمكننا استنتاج كون المؤلف تاجرا من تجار الصمغ العربي “العلك” كان يرتاد المراسي على الشواطئ والضفاف الموريتانية في بداية القرن التاسع عشر حيث كان الموريتانيون يبيعون تلك المادة للأوروبيين على شاطئ المحيط الأطلسي وعلى ضفة نهر السنغال، فهذا مفهوم من سياق النص.
ويبدو من خلال كتابته للهجة الحسانية أنه متأثر إلى حد ما باللهجة البربرية (كلام أزناگه ) الذي كان حينها متداولا في منطقة الترارزة وخصوصا في صفوف بعض قبائل الزوايا في تلك المنطقة. فنراه مثلا يبدل الظاء زايًا فيقول في كلمة “الظروفَ” زْرُوفَ، وفي كلمة “ظَرْكْ” أي الآن: درك. ونجده يبدل الثاء زايا فيقول في كلمة “أثرُو” أزرو. كما نجده يبدل حرف السين بالثاء فيقول في كلمة “أكثر” أكسر. وغير ذلك من مظاهر نطقية تعكس تأثير اللهجة البربرية في المؤلف، وكيف ينطق بعض الكلمات الحسانية بنظام صوتي متأثر بالنطق البربري.
ومن الملاحظ أيضا أن المؤلف حين أورد حوارا جرى بينه وبين تاجر فرنسي، فسأله التاجر عن اسم عريف قافلته التي تبيع العلك فقال له: اسمه فلان، دون ذكر اسم العريف إمعانا في التخفي وإيثارا لعدم الكشف عن هويته، فعدم ذكره لقائد القافلة، الذي قد يكون شيخ قبيلة المؤلف نفسه، إنما هو من باب ميله إلى أن تظل هويته مغيبة.
غير أن هنالك بعض الإشارات الأخرى والتي توحي بأن المؤلف من منطقة الترارزة؛ فعند حديثه عن السلطة السياسية في منطقته ذكر أن معاصره من الأمراء هو أمير الترارزة محمد الحبيب فقال: “أولاد أحمد من دامان هون اعْرَبْ إترابْ، وَهُومَ بَلَدْ استعريب، هذا شِيخْهمْ وشِيخ لعرب كاملَ محمد لحبيب، وبوه أعمر ولد المختار شيَّخْ گبْلُ…”.
وعند وصفه لزعيم من زعماء الزنوج “لكور” يقول: “اطوَيْلْ فارس خيل، وكرشُ ظامرْ، أسبطْ آفكراشْ كيف أهل شامَامَ لَوْلِينْ…” مما يدل على معرفته الخاصة بمنطقة شمامة… إلى غير ذلك من إشارات النص التي يمكن تتبعها واستخلاص ما يمكن استخلاصه منها.
ونلاحظ أن المؤلف أثناء إيراده لبعض القصص الشعبية اعتمد على كتاب المستطرف الشهير وذكر أنه مرجعه في بعض تلك القصص التي نقلها من أصلها العربي من كتاب المستطرف إلى اللهجة الحسانية.
يقع كتاب “امروگْ الحرف” في 91 صفحة من الحجم الصغير جدا وقد كتب بخط موريتاني جميل، وقد يكون خط المؤلف نفسه، وليس فيه سوى تعليق واحد باللغة الفرنسية بخط القس دافيد بوالا: ففي الصفحة 63 حين بدأ المؤلف في ذكر بعض أعيان الترارزة وفصَّل في قبائلهم، كتب القس بوالا معلقا باللغة الفرنسية ما نصه: “كنت قد كتبت تاريخ أمراء البيضان منذ وصولهم للسنغال إلى يومنا هذا”. فهذا التعليق أضافه القس دافيد بوالا لكتاب “امروگْ الحرف” هو وتعليق آخر في الصفحة الأولى من المخطوط حيث عنون بالمخطوط بعبارة فرنسية ترجمتها: (قصص وتاريخ البيضان). وكون القس بوالا كتب عن تاريخ أمراء البيضان وخصوصا الترارزة يدل على أن له اهتماما بإمارة الترارزة وبمن تعاقب عليها من أمراء، غير أنني لم أعثر بعد على هذا النص الذي كتبه بوالا لأعرف أهميته وما أضافه من معلومات.
لا يبدو أن بوالا حصل على هذا الكتاب من مؤلفه مباشرة، فلو كان حصل عليه منه مباشرة شراءً أو استكتابا لذكر ذلك في رسائله إلى الجمعية الجغرافية الفرنسية، بيد أن بوالا ذكر في بعض رسائله للجمعية أنه حصل على ما حصل عليه من أخبار الموريتانيين عن طريق شخصيتين من منطقة فوتا طورو وهما دادياكا (Diadhiaca) وأمادي كولجو (Amadi-Golojo)، وكلاهما توكلوري من منطقة فوتا طورو الشهيرة، وكان أمادي كولجو منهما ابن أخت الألمامي سعادة أمير بوندو بأعالي نهر السنغال. وقد نشر بوالا رسمين لهاتين الشخصيتين الفوتيتين في كتابه المخطوط عن فوتا طورو. فربما كان مؤلف كتاب “امروگْ الحرف” قد حرر كتابه هذا بطلب من أحد هذين الرجلين الفوتيين وبإيعاز من القس بوالا؟
من الجوانب الأدبية في كتاب “امروگْ الحرف”
أورد المؤلف هذا الكتاب الكثير من القصص الشعبية كقصص الحيوانات التي ساق منها عددا أحيانا يعتمد على ما شاع في المجتمع الموريتاني من تلك القصص، وأحيانا أخرى ينقل بالحسانية بعض القصص التي أورها المستطرف وهو كتاب جامع للقصص والنوادر والامثال والعبر والأخبار والآثار لمؤلفه المصري شهاب الدين محمد بن أحمد الإبهيشي. وكان كتاب المستطرف فيما يبدو متداولا بكثرة عند الموريتانيين في القرون الماضية.
كما أورد المؤلف قصصا تروى عن عيسى عليه السلام وقصصا عن علي كرم الله وجهه، وهي قصص، وإن لها أصول حقيقية، يبدو أن المجتمع أضفى عليها من صبغته، وحولها مع الزمن إلى حكايات تزيد فيها الناس وتنقص، وتضيف وتحرف كما هي عادة الروايات الشعبية.
وإلى جانب الروايات الشعبية أورد المؤلف نصوصا شعرية حسانية منها قوله في الصفحة التاسعة من مخطوطه:
“هاذَ زادْ گافْ زيْنْ امستَّتْ:
أرِجْلَ طَافِيلْ الْمَحْصَرْ ۞ واخْيارْ اذْرارٍ ذِي حسَّانْ
داروكتْهَ دبُّوسْ الشَّرْ ۞ وافْلَشْهَ دِينْ امْعَ السبْحانْ
بَابَ ولْ اعلِي ولْ أعمر ۞ ولْ أولادْ أحمدْ من دَمَانْ
والممدوح في هذا النص هو: بابا بن اعلي بن أعمر بن الشرقي بن اعلي شنظورة . نافس أمير الترارزة أعمر بن المختار (والد الأمير محمد الحبيب ) على الإمارة، وشايعه أخواله أهل عبلة وأولاد دمان مشكلين حلفا قويا إلا أن الموت عاجله قرب الركيز فرأست جماعته من بعده امحمد بن اعلي الكوري . ويصفه المؤلف وصفه المؤرخ المختار بن حامد في جزء بني حسان من موسوعته التاريخية بأنه: “كان سيدا كريما نفاعا عادلا شجاعا جوادا”. كما تحدث عنه النابغة الغلاوي في نظم أم الطريد:
وَهُدَّتِ الأرض لموت بابا ۞ وفتحتْ لكل ظلم بابا
كما أورد مؤلف كتاب “امروگْ الحرف”، نصا غزليا حين قال في الصفحة العاشرة من المخطوط:
خَوْلَةُ موسمْهَ بايتْ ۞ منُّو دمْعْ العيْنْ اسبايتْ
گالتْ تبكي وانت غايتْ ۞ روحكْ فافلانَ وافلانَ
ورَّدْتْ الْهَ معْنَ فايتْ ۞ مرعًى ولا كسِعْدَانَ
وفي الصفحة 71 أورد نصا غزيا آخر وهو:
آنَ لمكثَّرْ وسواسِ ۞ وعْملنِي باغرامكْ ننهانْ
وجدك فيَّ عادْ امَّاسِ ۞ لماسِ لبنُ فالفرْنانْ
كتاب “امروگْ الحرف” وتمثل الآخر
في هذا الكتاب جانب مهم وهو وصف المؤلف للناس وذكره لطبائعهم ونظرته لهم أو ما يمكن أن نسيمه مدركات الإنسان الموريتاني في القرن التاسع عشر لغيره من الناس. وهذا جانب مهم كثيرا ما اهتم المؤرخون وعلماء السياسية حيث نفهم من خلاله كيف يرى شعب معين شعبا آخر، أو كيف ترى طائفة أو طبقة اجتماعية غيرها من الطوائف والطبقات الاجتماعية، أو كيف ترى طبقة ما نفسها.
وهذه التوصيفات لا تقدم حقائق تاريخية واجتماعية، ولا تعطي صورة موضوعية لواقع معين وإنما تعطي صورا إدراكية وتقييما ذاتيا ونظرة لا تخلة من استعلاء طاغٍ أو تمجيد مفرط أو قدح غير منصف. لكن أهمية هذا النوع من الوصف تكمن في أنه يجعلنا نفهم كيف ينظر الناس بعضها إلى بعض، وكيف يقيم بعضهم بعضا وما هي طبيعة مدركاتهم للآخر.
وحتى لا أطيل على القارئ فسأقدم له نماذج من طريقة إدراك المؤلف للناس وتوصيفه للطبقات الاجتماعية الموريتانية وتوصيفه كذلك للشعوب التي احتك بها:
يقول المؤلف متحدثا عن الحساني وخصوصا الحساني المثالي في نظرة المؤلف:
“هاذ زاد أوصاف أولاد آدم: انسَبَّگْ لعْرَبْ: عربِ آفگراشْ، اعظمْ راجلْ، امغنِّ، ويعطِ ليگاونْ، أصحابُ ياسرين، ورامِ حتَّه ما إمسْ جنبُ اترابْ، اعبارْ حتَّه فارس خيلْ ولا يظلم المسلمين، وكارهْ العارْ وخايف من مولانَ يصدَّگْ على المسلمين ويبغيهم بوه عربي أم عربيَّه، زين يشابه لاولاد لعربْ. اكريمْ سخِي ما يكذب ولا يطلب. معلوم فاصحابُ، وخيرتْ بيه واسكي بيه حتَّ”
وفي المقابل يصف المؤلف الحساني غير المثالي بقوله:
“ماهُ عربِي، أتفُ بيه واعليهْ، واتفُ حتّهْ، امحيلِي حتّهْ امحالِي بشور، اذليل رابِي بخيل، ابلا اصحابْ، ليوَّادْ غاصبْ جايرْ ما عند وشي، ولا گطْ احظر في الفتنه، يظلم المسلمين ويجور اعليهم ولاه شي. افيسد بوكجَيْجَ، بوه امحالي وامُّ امحيليَّ… إلخ”.
وفي معرض حديثه عن وصف الزاوي المثالي يقول المؤلف:
“امرابط معلومْ عالمُ كل فنٍّ، اتلاميدُ ياسرين، امنحوي املغوِي شاعر حتَّه شِيخْ أهلُ، عشاي لظيَافينْ كارف العار، خايف من مولانَ، صالح ورع سخي اكريمْ تقِي اكتوبُ ياسرينْ حاملُ كتابِ الله… إلخ”.
أما عن وصف الزاوي غير المثالي فيقول المؤلف:
“هاذ امرابطْ ماهُ گارِي ما يعرف ابَّ، زلا يعرف بين قبلُ وبعدُ، زيبَّالْ لبگرْ، حيلاَّبْ لغنمْ اشويْنْ وحافِ، افيسدْ ابلا اعگلْ سيگاطْ، امشِي عنَّ اتفُ بيكْ الهيْهْ”.
ولأن المؤلف كان يتعامل مع الفرنسيين ويبيعهم العلك ويشتري منهم البضائع المصنعة فقد تشكلت في مدركاته صورة عن نمطين من التجار الفرنسيين: تاجر ممتاز أريحي وكريم، وتاجر دني لا خير فيه. وقد جاء وصفه للنمطين كالتالي حيث يقول المؤلف متحدثا عن صورة التاجر الفرنسي الكريم:
“باب في أوصاف النصارى: نصرانِي زين وامزكَّرْ من الدنيَا، حاجتُو زيْنَ، واسمينْ حتَّه، ويشابه للبيظانْ، ومستعربْ يبغِي البيظان، ويعرف لعيارَ، وامن اشيوخ أولاد اندر، ولا يشرب الخمر… إلخ..”
أما التاجر الفرنسي اللئيم فيصوره المؤلف كالتالي:
“باب في الذم:
انصيريني من انصارتْ ساحلْ، عينيه بيظْ كيف عينينْ الموصْ، يشرب الخمرْ ويوكل لخنازير، ويبول واگفْ، كافر بمولانَ وارسولْ، باگجَيْجْتُو، افَّيْمُو أحمر، سنيْهْ كيف سنين لحمار…إلخ”.
أما الأفارقة أو لكور كما يقال في الحسانية فهنالك أيضا مدركان مختلفان الإفريقي الممتاز أو الكوي المثال ونقيضه. يقول المؤلف عن الأول:
“باب في السودان:
كوري معلوم، امرابطْ، زرعُو ياسرْ وآدلگانُو ويشركاشُو وكتانُو. واتلاميدو ياسرينْ، واعيالاتُو أربعَ، والسانُو امحالِي في لگرَ، وعندو ياسر من آمسقاتِن.. إلخ”.
ملاحظة: آمسقاتن: جمع امسق وبعضهم يقول ابسقْ بالباء وهو المكان الذي تجمع فيه المحاصيل والغلات الزراغية من سنابل وغيرها قبل فركها.
وعن السوداني أو الكوري غير المثالي في نظر المؤلف نجده يقول:
“هاذ اكوَيْرِي اشوبنْ ولَكَانْ اگويبينْ، سلالْ، كرشُو اكبيرَ، فمُّو كيفْ فم احمارْ الغابَ… إلخ.”
العلاقات التجارية في كتاب “امروگْ الحرف”
أورد المؤلف حوارا بينه وبين تاجر فرنسي وكان المؤلف فيماي يبدو ضمن قافلة تجارية حطت رحالها عند أحد المراسي على ضفة نهر السنغال والتي كان الموريتانيون يتعاملون فيها مع الأوروبيين. وسواء أكان هذا الحوار واقعيا أو متخيلا فإنه يعطي صورة واضحة عن طريق المعاملة بين الفرنسيين وبين الموريتانيين، وعن محاولة كل طرف استدراج الآخر حتى يستفيد منه: فالفرنسي يريد علكا بسعر رخيص، والتجار الموريتانيون يبحثون عن مقابل مادي عال، وعن المنافع التي كان التجار الأوروبيون يعطونها امتيازا وإكراما لتجار الصمغ العربي والتي تعرف محليا ب”وجه العلكْ”. كما أن الحوار يفصل تفصيلا هاما في أنواع البضائع وتسعيرها واختلافها وانتقائها وغير ذلك.
وهذا نص الحوار باللهجة الحسانية مع محاولتي تعريب ما يحتاج منه إلى تعريب بين القوسين:
التاجر الفرنسي: السلام عليكم.
المؤلف: وعليكم السلام.
– لا باس.
– لا باس اتبركلَّ الحمد لله (لا بأس تبارك الله الحمد لله)
– أخباركم؟
– أخبار الخير.
– امنين صابحين؟ (أين أصبحتم؟)
– صابحين تلْ (أصبحنا شمالا).
– امنين خلَّيتُ أهلكم؟ (أين تركتم أهلكم)
– خليناهم تلْ ابعيد. (بعيدون إلى الشمال).
– اشِتْردُّ (ماذا عندكم من الأخبار؟)
– ما نردُّ يكون الخير. (ما عندنا إلا أخبار صالحة)
– اترارزَ ما هلَّ ما بينهم يكون الخير؟ (هل الأمن مستتب بين مجموعات الترارزة؟)
– اتباركلَّ ما بينهم يكون الخير. (نعم الأمن مستتب بينهم)
– انتوم أش جالبينْ؟ (ما ذا تبيعون)
– جالبين العلك (نبيع الصمغ العربي)
– أنتومَ رفكه اكبيرَ؟ (هل قافلتكم عظيمة؟)
– رفكة اكبيرَ (نعم نحن قافلة كبيرة)
– تلحك ميت أمكتور؟ (هل تبلغ قافلتكم مائة دابة موقرة؟)
– أكسر (أكثر من مائة)
– ويْنْهُ شِيخكمْ؟ (اين عريفكم؟)
– ذاك هو.
– أسمُ؟ (ما اسمه؟)
– إفلان (فلان)
– امش عيطلُ. (اذهب ناده)
– لمرابط عيط لك ذاك النصرانِ (أيها المرابط أجب الفرنسي).
– سالم؟ (كيف أنت؟)
– سالم. (أنا جيد)
– سالمَ صحتكْ؟ (كيف صحتك؟)
– سالم الحمد لله.
– أنا اندور تبيعولِ علكمْ (أريدكم أن تبيعوا لي صمغكم).
– يلا عادتْ حاجتكْ زينَ. (إذا كانت بضاعة من النوع الجيد).
– ءانَ ما نعطيكم يكون الخنط ازَّينْ (لن تجدون عندي إلا القماش الجيد).
– يَلا اعْطيْتنَ الخُنطْ الزين حتَهْ وعطيتنَ لوجهْ المعلومْ وشَكتومِ المعلومَ انبيعولك علكنَ كاملْ، أواسيت شِ للشِّيخنَ. يغير أعجلْ اسكينَ كاع افرغنَ! (لو أعطيتنا قماشا جيدا ومعاملة يومية معتبرة، وإكرامية معتبرة، فسنبيعك صمغنا كله، وأيضا بشرط أن تعامل عريفنا معاملة كريمة. ثم عجلْ بالشراب فقد أهلكنا العطش).
– نسكيكم من لعسل؟ (هل تحبون شراب العسل؟)
– آراحْ يخيْ! اسكينَ من السكر، واسيلنَ ياسر من اطعامْ. (كلا يا أخي! اسقنا من السكَّر، واصنع لنا مائدة عظيمة).
– هذَ شرابْ، وطعامْ زاد يجِ دركْ.. كومُ باطلْ جيبوُ علكمْ (إليكم الشراب أما الأكل فسيقدم لكم قريبا.. قوموا فاعرضوا صمغكم).
– ماهِ اعليكْ.. ما نجيبوهْ ما فتن كلن وشربن، وشفنَ خنطكْ ورضيت شِيخْنَ وكلتنَّ ال تعطين من شكتومَ (لا عليك.. لن نأتي ببضاعتنا قبل أن تسقينا وتطعمنا، وقبل أن نرى قماشك وقبل أن ترضي عريفنا وتقول لنا قيمة الإكرامية).
– نعط الشيخكم بيص كحلَ أوّحدَ بيضَ ووَحْدَ من لببَّيْصْ، وصندوكْ أحمر، ويليويش وصطلَ حمرَ ومرجن اكبيْرْ وغالتْ مِلفَ ومحكن سكُرْ وموسْ ومغسْ وامرايَ وبوش بارودْ وكتاب محبوك وبارت احديدْ، وافروَاليْنْ من آفراويل اندر، وسبنيَ حمرَ ومات من ازرعْ وعشر امدودْ من مارُ. (سوف أعطي لعريفكم قطعة قماش سوداء “15 مترا” وواحدة بيضاء وقطعة من القماش العادي، وصندوق أحمر، وهيدورة ووعاء أحمر،وقدر كبيرة وأذرع من الحرير، وقعب من السكر، وسكين ومقص، ومرآة، وعلبة بارود، وكتاب مغلف، وعمود من الفولاذ، وكساءين من أكسية مدينة اندر، وقطعة قماش حمراء وقنطار من الذرة وعشرة أمداد من الأرز).
– هاذا كامل اسمعْناهْ يلاَ عادْ خنطكْ سبُورِسْ الأحمر وواسيت أعشر امدودْ بيصَ وشكتومَ الياسرَ. (سمعنا كلامك كله، وإذا كان قماشك من نوع سبورس الأحمر، واشتريت منا مقابل كل عشرة أمداد من الصمغ بقطعة قماش، وأعطيت إكرامية كثيرة فسنوافق)
– ان واسيلكم عشرين مد لبيص من ظهر الصوك، وُلا بعتول خمسين ماتَ نعطيكم أخمس بيصات كحل، وخمسَ بيُضْ، وخمس من لبَّيْصْ وخمس اصناديك حمر، وخمس امراجن اكبار وخمس اصغارْ، وعشرين امرايَ، وعشرين موسْ، وعشرين امغسْ، وخمس أباش بارود، وخمس بارات احديد، وميت ارصاصَ، وحفنت اغرفل، واخمس ماتَ ازرع، واغرارَ اكبيْرَ من مارُ وأخمس اذرع من الملفِ وعشرين محكن من سكر وياسر من تيمش، وياسر من زنداوات. يلا اكبلتَ هذا جِيبُ عُلْكُمْ درك، يلا بيتُ أخلاص. (سأشتري منكم العشرين مدا بقطعة قماش يدا بيد وسوف أعطيكم كلما بلغ وزن العلك خمسين قنطارا خمس قطع من القماش الأسود وخمس من الأبيض وخمس من النوع العادي وخمسة صناديق حمر وخمس قدور كبار ومثلها صغار وعشرين مرآة وعشرين سكينا وعشرين مقصا وخمس أوعية من البارود وخمس أعمدة من الفولاذ، ومائة رصاصة، وقبضة اليد من القرنفل وخمسة قناطير من الذرة، ووعاء كبير من الأرز وخمسة أذرع من الحرير وعشرين قعبا من السكر والكثير من حجر الصوان والكثير من المقاديح. فإن رضيتم فهاتوا صمغكم حالا وإلا فشأنكم).
– هذا اسمعناهْ نمشُ الَ امْعَ اصباحْ انجوك (سمعنا عرضك وسنعود إليك صباح غد).
– أراح، اتعالُ دخلُ علكم في الكارب ونوزنوه إن شالَّ، ما اتشوف اعليَّ مسلَ، نشر علكمْ، ونسلف الكم الخنط وازرع ونواسيلكم ياسر معلوم. (لا لا، تعالوا وأنزلوا الصمغ في السفينة، وسنبدأ في كيله إن شاء الله، ولن تروا مني إلا ما يسركم فسوف اشتري بضاعتكم وأقرضكم القماش والذرة وأفعل لكم معروفا كثيرا)
– سرتك أدنَّ انجوكْ امع اصباحْ (قسما لنأتينك صباحا.)
انتهى الحوار
ولا يخلو هذا الحوار من أهمية حيث يعطينا صورة واضحة للتعاطي بين التجار الأوروبيين وبين الموريتانيين، والأسس التي كان يقوم عليها التعامل التجاري، وكيف كانت تتم المماكسة وانتقاص الثمن واسْتِحطاطِه والمنابذة فيه بين هؤلاء الموريتانيين وبين التجار الفرنسيين. والمصطلحات اللغوية الحسانية التي كانت تستعمل يومئذ والتي تعد معروفة اليوم مثل: وجه العلك، ومثل شكتومَه، فضلا عن بعض البضائع وأنواع القماش القديمة التي لم تعد أيضا معروفة اليوم.
هذا جزء من مضامين كتاب “امروگْ الحرف” وليس كلها، وهو كتاب صغير الحجم كبير المعنى، مادته الثقافة الشعبية في الأساس، ولغته اللهجة الحسانية، وتاريخ تأليفه قديم نسبيا (النصف الأول من القرن التاسع عشر)، وهي أمور تجعل منه مادة وثائقية نادرة، تصلح أن تدرس من طرف طلاب وباحثي التاريخ وعلم الاجتماع واللسانيات لتحليلها ووضعها في سياقاتها المفيدة حتى نتمكن من فهم جانب من اهتمامات الموريتانيين في القرون الماضية.
انتهى
للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
ahmeds@aljazeera.net
ouldlemir63@gmail.com
Ce qui me fascine chez notre grand chercheur Emmed c’est sa recherche de l’originalité.
Bon courage et merci pour ses efforts louables.
Ce qui me fascine chez notre grand chercheur Emmed c’est sa recherche de l’originalité.
Bon courage et merci pour ses efforts louables.
قراءة جادة وموفقة في كتاب نادر من باحث متميز فشكرا لكم دكتور على إعادة الحياة إلى تاريخ موريتانيا لسياسي والثقافي
كتاب طريف يستحق العناية شكرا لكم
كتاب طريف يستحق العناية فشكرا لكم
C’est excellent c’est original merci bcp Dr Emmed