الرئيسية / الاخبار / الدبلوماسية الموريتانية قديما.. من خلال تغطيات الصحافة الفرنسية

الدبلوماسية الموريتانية قديما.. من خلال تغطيات الصحافة الفرنسية

لم تستطع الدبلوماسية الفرنسية والإسبانية بما أوتيتا من حنكة وتبصر ومعرفة بوسائل الترغيب والترهيب أن تنتزعا الرهينتين الفرنسيتين “مارسيل رين” و”أدوارد سير” عندما وقعا في أسر بعض أفراد قبيلة الركيبات قرب مدينة الداخلة بالصحراء سنة 1928.
سيدي أحمد ولد الأمير
باحث موريتاني مقيم بقطر

لم تستطع الدبلوماسية الفرنسية والإسبانية بما أوتيتا من حنكة وتبصر ومعرفة بوسائل الترغيب والترهيب أن تنتزعا الرهينتين الفرنسيتين “مارسيل رين” و”أدوارد سير” عندما وقعا في أسر بعض أفراد قبيلة الركيبات قرب مدينة الداخلة بالصحراء سنة 1928.

بعد الكثير من المحاولات الدبلوماسية اليائسة والتخابر الأمني غير الموفق قرر الفرنسيون والإسبان اللجوء إلى الطرف الموريتاني الفاعل الذي لولاه لما تم التوصل لحل المشكل الذي شغل الصحافة الفرنسية والإسبانية كما شغل السياسيين ورجال الأمن في الدولتين في الصحراء الغربية وفي سينلوي.

الأمير ولد إبراهيم السالم وأزمة الطياريْن الفرنسيَّيْن

كانت ثقة أهل الساحل عموما والركيبات خصوصا في أمير الترارزة كبيرة وكانت مكانته وشهرته تؤهلانه للعب أدوار إصلاحية ودبلوماسية هامة. كان الفرنسيون مدركين لأهمية الرجل الاجتماعية لذلك لم يتوانوا في التواصل معه وطلب مساعدته الإنسانية بعد أن فشلت جميع محاولاتهم مع قبيلة الركيبات المصرة على تلبية طلباتها المشروعة والمتمثلة في دفع فدية مالية وإطلاق سراح إخوتهم الذين تسجنهم الإدارة الفرنسية في موريتانيا مقابل الإفراج على الطيارين الفرنسيين الموجوديْن بين أيديهم.
[| صورة أمير الترارزة أحمد سالم ولد إبراهيم السالم كما وردت في صحيفة لوماتان (Le Matin) الفرنسية نهاية أكتوبر 1928. |] *
*
في الرابع من نوفمبر 1928 وطئت قدما الطيار الفرنسي مارسيل رين (Marcel Reine) ومعه زميله أدوارد سير (Edouard Serre) مطار مدينة تولوز بجنوب فرنسا بعد أن أمضيا أربعة أشهر في الأسر في الصحراء الغربية، وقد نالا حريتهما بفضل المفاوضات الشاقة التي قادها الأمير ولد إبراهيم السالم مع قبيلة الركيبات والتي أدت في النهاية إلى الإفراج عن الرهينتين بعدما وجدت فرنسا وإسبانيا نفسيهما عاجزتين عن تقديم أي وسيلة لحلحلة “أزمة رين وسير” كما كانت تعرف في الإعلام الفرنسي حينها.

كانت ليلة 30 يونيو 1928 بداية مشكل بالنسبة للفرنسييْن رين وسير؛ فقد غادرا مدينة الدار البيضاء بعد أن ودعهما الفرنسي الشهير بموريتانيا سينت أكزيبيري (Saint-Exupéry) وهما يحملان بريدا في اتجاه أمريكا الجنوبية. كانا يقودان طائرة خاصة تقوم بتوصيل البريد الفرنسي إلى أن تعطل محركها فقاما بإنزال قسري فهبطا بمشقة قرب مدينة الداخلة بالصحراء الغربية فوقعا في صبيحة ذلك اليوم في قبضة أفراد من قبيلة الركيبات.
[| تقرير عن قضية رين وسير من صحيفة لوماتان (Le Matin) نهاية أكتوبر 1928. |]

*
*
انقطع التواصل مع الرجلين وعميت أخبارهما إلى أن أخبر الحاكم العسكري الإسباني “ريغرال خوف” الموجود بالداخلة، يوم 4 يوليو 1928، أن الطيارين الفرنسيين الاثنين موجودان بقبضة قبيلة الركيبات، ولإطلاق سراحهما فإن الركيبات يطالبون بفدية عظيمة قدرها مليون بعير ومليون بندقية وإطلاق سراح بعض جميع السجناء الموجودين في سجون الإدارة الفرنسية بموريتانيا.

ألف الصحفي والمغامر الفرنسي جوزيف كيسيل المولود سنة 1898 كتابه: رين وسير في ضيافة أبناء الصحراء، قصص مغامرة في بلاد البيظان (Reine et Serre. Chez les fils du désert. Récits d’aventure au pays maure) فأورد فيه نجاح الدبلوماسية الموريتانية في فك أسر هذين الفرنسيين. غير أن متابعة الصحف الفرنسية وخصوصا لوماتان (Le Matin)، ولوتان (Le Temps)، ولوفيغارو (LeFigaro) وغيرها من الصحف الفرنسية القديمة أوضحت جوانب من نجاح الطرف الموريتاني في حل هذه الأزمة.

نشرت صحيفة لوماتان (Le Matin) في عددها رقم: 16284 بتاريخ 19 أكتوبر 1928 حوارا مع أمير الترارزة حين كان مقيما بمدينة الداخلة يحاول في صبر وأناة وحصافة التوصل إلى حل للمشكلة الطيارين الفرنسيين قضى الأمير ولد إبراهيم السالم ثلاثة أسابيع في الداخلة انتهت بتوصله إلى اتفاق بين الركيبات وبين الفرنسيين تم بموجبه تلبية طلبات الطرفين..
[| صورة الرهينتين الفرنسيتين كما صحيفة لوماتان (Le Matin) نهاية أكتوبر 1928. |] *
*

يذكر المراسل أن الصبر قيمة إسلامية أصيلة وأن ولد إبراهيم السالم يتحلى بهذه الصفة التي لولاها لما تم التوصل إلى حل هذا المشكل. كان الأمير ولد إبراهيم السالم –كما يقول الصحفي الفرنسي- مهيبا طويلا جميل المحيا وقد وخط الشيب في رأسه وكان يرتدي كندوره زرقاء، وحوله مرافقوه وبعض الشخصيات التي جاءت من موريتانيا ومن سينلوي لحضور هذا المفاوضات الشاقة التي كانت تحظى بتغطية صحفية دولية. ومن بين من هم مع ولد إبراهيم السالم الترجمان الشهير محمدن ولد أبنو المقداد الذي كان يتولى ترجمة محادثات أمير الترارزة مع الفرنسيين والإسبان كما ذكرت الصحافة الفرنسية.

دفعت الفدية للركيبات بعد أن تنازلوا عن جزء منها إرضاء لضيفهم الكريم الأمير ولد إبراهيم السالم الذي حرص هو الآخر على أن يتم إطلاق المساجين الموجودين في السجون الفرنسية وقد تراضى الطرفان وقدم كل منهما تنازلات من جانبه بعد جهود ديبلوماسية شاقة.

أنهى الأمير ولد إبراهيم السالم مهمته بنجاح وقد ذكر سفره إلى الداخلة المؤرخ الفقيه المختار ولد المحبوبي رحمه الله تعالى في نظمه التاريخي حين سافر سنة 1928 أي سنة 1347 للهجرة التي عبر عنها الناظم بعبارة “مز” وتعني 47 في حساب الجمل:

وَجَا الأميرُ فيه وادَ الحطَبِ ۞ ولحِقَ الأنامَ بعضُ العَطَب
وسيره بـ”مزْ” بأرض الداخله ۞ غادرَ أحزانًا بقلبٍ داخلهْ

و”واد الحطب” موضع شمال شرق نواكشوط قريب من الطويلة الى الجنوب الغربي منها ويقع غرب طريق أكجوجت/نواكشوط وكان ولد إبراهيم السالم قد تعقب في وادي الحطب سنة 1927 بعض الجيوش وألحق بهم هزيمة.

بعثة بلانشيه إلى أطار ووساطات الشيخ سعد بوه

عرف عن الشيخ سعد بوه رحمه الله تعالى منذ أن وصل منطقة الترارزة قادما من منطقة الحوض حيث ولد ونشأ، عرف عنه سعيه الدؤوب لإصلاح ذات البين ونشر التصوف الصحيح والتعاليم الدينية بين المجتمع. ومن بين القضايا الشائكة التي استطاع الشيخ سعد بوه حلها وتجاوزها ما عرف في الصحافة الفرنسية مطلع القرن العشرين بقضية بعثة بلانشيه (Mission Blanchet) نحو آدرار.

[| مراسلات بين أمير آدرار والشيخ سعد بوه مع الإدارة الفرنسية بسينلوي حول بعثة بلانشيه كما جاءت في صحيفة ليمانيتيه (L’Humanité) الفرنسية، سبتمبر 1900. |]

*
*
تحدث أستاذ العلوم الطبيعية بجامعة السوربون دريمس في صحيفة ليمانيتيه (L’Humanité) الفرنسية في عددها رقم 1337 الصادر بتاريخ 15 ديسمبر 1907 عن جهود الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل رحمه الله تعالى الجبارة في إيجاد حلول لهذا المشكل الذي طرح بقوة على إمارة آدرار وعلى ساكنة أطار في صيف سنة 1900.

كانت بعثة بلانشيه آخر بعثة استكشافية تدخل موريتانيا قبل دخول الاستعمار الفرنسي لبلادنا حيث لا يفصل بينها وبين مجيء المستعمر سوى سنتين. وكان تضم ثلاثة فرنسيين (بلانشيه ودريمس وغامبتا) والترجمان محمدن ولد أبنو المقداد رحمه الله وبعض الرماة السنغاليين ومرافقين آخرين.

[| صورة دريمس وهو أحد رهائن بعثة بلانشيه نقلا عن أرشيف صحيفة ليمانيتيه (L’Humanité) الفرنسية ديسمبر 1907. |]

*
*
كانت الإدارة الفرنسية قد راسلت أمير آدرار المختار ولد أحمد ولد عيدة رحمه الله حول شأن هذه البعثة، فكان موقف الأمير إيجابيا وأعطى إذنه بوصولها إلى آدرار وأنه سيستقبلها ويبحث معها تفاصيل ما تريده.

ومن خلال ما كتبته الصحافة الفرنسية عن هذه البعثة ومن خلال التقارير التي كتبها ولد أبنو المقداد وبلانشيه ودريمس فإن هدف البعثة كان الوصول إلى آدرار وتقديم جملة من الحقائق حول أوضاعه البشرية والطبيعية واستكشاف مرتفعاته الجبلية التي لم تطؤها قبل ذلك قدم فرنسي، فضلا عن معرفة ما إذا كان آدرار يحتوي على مناجم من نترات الصوديوم والذهب…

لم تكن ساكنة آدرار ترغب في وصول فرنسيين إلى أطار ويرون في ذلك تهديدا أمنيا خطيرا، في حين كان تقدير أمير آدرار مختلفا حيث يرى أن بالإمكان التوصل من خلال هذه البعثة إلى اتفاقيات مع الفرنسيين في سينلوي وهي اتفاقيات ستنعش تجارة القوافل الذاهبة والقادمة إلى آدرار كما ستعزز مكانة آدرار التجارية والدبلوماسية خصوصا وأن الإمارات الموريتانية الأخرى مثل إمارتي البراكنة والترارزة وإمارة تكانت تربطها اتفاقيات مربحة مع الفرنسيين بسينلوي.

ومن سوء حظ بعثة بلانشيه أنها توجهت إلى آدرار في فترة اضطرابات اجتماعية وسياسية عميقة. فقد وصلت البعثة إلى أطار ولم تمض سوى عشرة أشهر على وفاة الأمير أحمد ولد سيدي أحمد رحمه الله وسقوط داره عليه نهاية سنة 1899. وكان معارضو المرحوم الأمير أحمد من أولاد غيلان ومن غيرهم في حالة غليان سياسي واجتماعي حيث إن الأمير الجديد المختار لم يستطع بعد إسكات الأصوات الناقمة على الأمير السابقة، وبالتالي لم يكن الوقت مناسبا أمام البعثة الفرنسية غير المرغوب أصلا في قدومها.

انتهى المطاف بالبعثة في أطار فوجدت الأمير خارج المدينة، وقد أنزلهم ابنه أحمد في دار من دور أطار، فتعرضت البعثة فور وصولها لحصار مشدد، وحدثت مواجهات دامية بين أعضاء البعثة وبين بعض ساكنة أطار مما أدى إلى سقوط ضحايا وإصابة الترجمان ولد أبنو المقداد في الرجل مما صيره أعرج بعد ذلك. وقد تطور الحصار إلى وقوع الفرنسيين الثلاثة وولد أبنو المقداد في الأسر وهروب الرماة السينغاليين نحو سينلوي.

تذكر تقارير الصحافة الفرنسية أن الأمير المختار وصل متأخرا فوجد أمامه وضعا متأزما، فأغلب ساكنة أطار لا تريد دخول الفرنسيين لمنطقتهم بل يرغبون في التخلص منهم ولو قتلا، في حين كان تقدير الأمير أن ينظر إلى القضية من زاوية سياسية ودبلوماسية وأن يعامل الفرنسيون ومن معهم على أساس أنهم مبعوثون من طرف جهة سياسية مهما اختلفنا معنا فإننا ملزمون بالتعامل معها بروية وأنه ينبغي تغليب الحكمة والدبلوماسية على الانتقام والمجابهة.

غير أن ساكنة أطار –كما تذكر التقارير- كانت مصرة على رؤيتها في حين ظل الأمير متمسكا بتقديره للموقف. وقد كتب بعض فقهاء أطار فتوى بضرورة تنفيذ حكم الإعدام في ولد أبنو المقداد وابتعاث الفرنسيين لملك المغرب لاستبدالهم ببعض أسرى المسلمين.

لم يجد الأمير من المختار من مخرج لهذه الأزمة إلا أن يطلب تدخل الشيخ سعد بوه رحمه الله تعالى فهو ذو مكانة خاصة في جميع موريتانيا وفي آدرار بشكل خاص حيث أنه كان مسموع الكلمة ومحترما ومقدرا عند الجميع من فقهاء وأعيان وأمراء وغير ذلك.

قبل أهل أطار وساطة الشيخ سعد بوه الذي حل ضيفا بأطار. وكان رأي الشيخ سعد بوه ضرورة تغليب الحكمة واعتماد الطريق الدبلوماسي لحل أزمة الرهائن الفرنسيين مع تأسيس ذلك على النصوص الشرعية المعتمدة الصريحة، وفي نفس الوقت إعطاء ساكنة آدرار ما يطلبونه من شروط وتوثيق ذلك وضبطه.

وقد قبل ساكنة أطار رأي الشيخ سعد بوه ورأوه صوابا بعد نقاشات مطولة وصريحة أظهر فيها الشيخ سعد بوه مكانة فقهية عالية وحرصا على إرضاء الطرف الآدراري وقبولا بشروطه الموضوعية، مع حقن دماء أفراد البعثة؛ خصوصا وأنهم جاؤوا بعهد من الأمير المختار ممثل السلطة التنفيذية القائمة التي ينبغي في النهاية إعطاء الاعتبار لما تتخذه من قرارات تحقق مصلحة عامة وتجلب منفعة أو ترد مضرة.
[| تقرير عن بعثة بلانشيه ورد في صحيفة ولوتان (Le temps) الفرنسية سبتمبر 1900. |] *
*

وساطات أخرى في القرن التاسع عشر

تحدثت يومية “نقاشات سياسية وأدبية” (Journal des Débats Politiques et Littéraires) في عددها الصادر بتاريخ 18 يناير 1852 عن وساطة أمير الترارزة محمد الحبيب لاستخلاص فرنسيين وقعا في الأسر لدى أولاد دليم.
لم تستطع سفية “لوسي” (Lucie) أن ترسو على الشاطئ قبالة آرغين بموريتانيا فوقع ربانها “لافيال” (Lavialle) ومساعده “دارتيس (Dartis) في الأسر وقضوا أربعة عشر شهرا في قبضة أولاد دليم.
ولم تتوسع الجريدة في إعطاء تفاصيل هذه الوساطة بل اكتفت بذكرها في تقرير إخباري مجمل.

ظلت الصحافة الفرنسية وخصوصا جرائد مثل: لوفيغارو (Le Figaro)، ولومانيتي (L’Humanité)، ولوتان (Le temps)، ولوماتينه (Le matin)، وآنَّال كولونال (Annales Coloniales) وغيرها، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر حريصة على تتبع ونقل أحداث بلادنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويعتبر أرشيف هذه الجرائد الفرنسية مخزونا هاما لمعرفة جوانب من الاهتمام الفرنسي بموريتانيا أحداثا واشخاصا.
[| تقرير إخباري ورد في يومية “نقاشات سياسية وأدبية” (Journal des Débats Politiques et Littéraires) يناير 1851. |] *
*

انتهى.

للاتصال بسيدي أحمد ولد الأمير:
ahmeds@aljazeera.net
ouldlemir63@gmail.com

تعليق واحد

  1. Merci à notre chercheur SidAhmed pour ces précieux documents qui témoignent que la diplomatie est une affaire des grands.

اترك رد